تراث الطهي اليمني في عيون المغتربين

صوت الأمل – هبة محمد

لقد أَجبرتْ الأزمةُ الإنسانية في اليمن ملايين اليمنيين على ترك وطنهم وأسرهم متجهين نحو عدد من البلدان العربية كالسعودية وقطر ومصر، والبلدان الأجنبية كتركيا وأمريكا وكندا وغيرها، بهدف العمل أو الدراسة أو العلاج أو البحث عن الأمن والاستقرار، الذي فقدوه داخل وطنهم، متجرعين عناء الغربة وآلامها، متخذين الصبر وسيلة للتأقلم مع بلدان المهجر.

هناك في بلدان الاغتراب تسيطر مشاعر الحنين للأرض والوطن والتراث المتمثل في عدد لا نهائي من الموروثات الشعبية؛ منها حنينهم واشتياقهم لكل ما هو مرتبط بهويتهم وثقافتهم في بلدهم الأصل؛ كتراث الطهي اليمني الأصيل، الذي يعبر عن هوية اليمني أينما حلَّ أو ارتَحلَ.

لنجمع لكم في هذا التقرير مشاعر الانتماء والحنين للوجبات الشعبية لدى عدد من المغتربين اليمنين في أرض المهجر.

مرارة الغربة والحنين لتراث الوطن

يمارس معظم اليمنيين في المهجر حياتهم بالعمل والدراسة وشعارهم الصبر والكفاح لأجل العيش، ويصنعون لحياتهم اتجاهًا آخر نحو التأقلم مع ثقافة البلدان التي يعيشون فيها، متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم المختلفة في مناسباتهم وتفاصيل حياتهم.

يقول الدكتور فياض محمد (مغترب في ماليزيا منذ 15عامًا) عن حال المغترب، وهو يحنُّ لكل ما يتصل بتراث الطهي في اليمن: “يعيش المغترب اليمني حنينًا عميقًا لمأكولات بلاده وللتجارب الاجتماعية والثقافية المرتبطة بها، فيتذكر أوقات الجلوس حول الطاولة العائلية ومشاركة الطعام مع الأحبة والأصدقاء، وهذا يثير لديه الشعور بالحنين، فيتذكر طعم الأطباق المحببة إليه ويشتاق لتلك النكهات الفريدة والأصيلة”.

ويواصل فياض الحديث مع صوت الأمل: “بالرغم من انشغالاتنا بالعمل والبحث والدراسة في بلاد المهجر، لكننا نحاول أن نسترجع ذكريات الأطباق الشعبية، التي كنّا نتناولها بكل شغف وحب في بلدنا اليمن، كأحد رموز الهوية اليمنية من خلال تحضير بعض المأكولات الشعبية بأنفسنا داخل السكن، محاولين إعادة خلق تلك المأكولات الشعبية باستخدام المكونات الأساسية التي يستخدمونها في المطبخ اليمني، على أمل أن نشعر بالراحة والارتباط بالجذور الثقافية اليمنية من خلال الطعام”.

ويوافقه الحديث المغترب اليمني علي حميد الذي قست عليه الظروف المعيشية في بلاده فاضطر إلى الهجرة للعمل في الأردن، فيقول: “مشاعر المغترب تجاه تراث الطهي اليمني في بلاد الغربة دائمًا ما يكون محفوفًا بالذكريات من الماضي المرتبطة بتناول الطعام مع الأهل والوالدين، ذلك هو الحنين، وما عدا ذلك يظل الأمر قابلًا للتعايش والتلاؤم مع طعام المهجر”.

وهذا يحيى زرعان طالب دكتوراه في الهندسة الميكانيكية في إحدى الجامعات الماليزية، يقول لصوت الأمل: “يظل حنين المغترب اليمني في كل أصقاع الأرض إلى المطبخ اليمني أو الأكل الشعبي مهما حاول الاندماج مع الأكلات الغربية أو الآسيوية، يرتبط ذلك بالذوق الذي ترعرع عليه وتعود عليه لسانه وحواسه، رغم تنوع المأكولات اللذيذة غير اليمنية، لكن تظل هناك علاقة أصيلة بين اليمني وأكله الشعبي المختلف عن باقي المطابخ العربية والغربية”.

ويوافقه الرأي المغترب اليمني المهندس محمد المقطري، ويضيف: “نحنُّ لمأكولاتنا الشعبية كثيرًا ونعدّها لمسة ثقافية من الوطن، ونفرح كثيرًا حين يتذوق مأكولاتنا الشعبية الأجانب، وتنال استحسانهم؛ فالأطباق اليمنية الشعبية غير كل الأطباق الأخرى؛ لاختلاف المكونات اليمنية الطيبة، فحتى لو أكلنا في المهجر، فإنّ هنالك فارقًا في الطعم واللذة، ولكنّها أقرب ما نقدر عليه في الظروف الحالية”.

فيما يقول محمد سعيد -مغترب يمني في السعودية-: “نتحمل مرارة الغربة وسط الظروف الاقتصادية الصعبة في بلدنا، ويزيد حنينُنا لكل شيء موجود في اليمن أرضًا وإنسانًا، منها مأكولاتنا الشعبية الفريدة والمتنوعة؛ كالعصيد اليمني، وبنت الصحن ، وغيرهما، بالرغم أننا نحاول عبور ذلك الحنين والشوق بالطهي بالبيت أو بالمطاعم اليمنية الممتازة، ولكنها ليست بنفس النكهات أو الطعم  الذي في اليمن؛ فكل شيء هناك مختلف، ويتمتع بجودة المكونات في الدجاج، والذرة، واللحم، والبهارات”.

من جهته يؤكد المغترب اليمني عصام مانع مهندس تقنيات معلومات في ماليزيا “أنّ مشاعر الحنين تأتي بين الحين والآخر، وبالذات عندما تكون في منطقة لا يوجد فيها أي مطاعم يمنية. وهي ذكريات عابرة تزيد الشخص جوعًا وشوقًا للأكل، الذي اعتاد أن يأكله سواء في القرية كطفل، أو في المدينة أثناء مراحل الدراسة، فبالنسبة لي المطاعم اليمينية بعيدة جدًّا عن مكان عملي، وإذا ذهبت لأحد تلك المطاعم، لن أشبع ذلك الشوق للنكهات اليمنية بأطباقها الشعبية، ويظل الحنين للماضي والأكلات اليمنية في كل الأحوال”.

مشاعر انتماء وارتباط 

 يمكن للمأكولات الشعبية اليمنية أن تلعب دورًا مهمًّا في شعور المغترب اليمني بالانتماء بأرضه وبلاده، هذا ما أوضحه الدكتور فياض في حديثة قائلًا: “يحاول اليمني في بلاد المهجر أن يبحث عن روابط ثقافية قوية ليتمسك بها من خلال محاولته تناول الأطباق الشعبية؛ لتشعره برابطة قوية مع الثقافة اليمنية، ورغم ذلك يبقى الحنين والشوق للوطن وخيراته من الموائد الشعبية المتنوعة ثغرة مستمرة في قلوبنا لن يغطيها إلا هواء الوطن والتماس أرضه”.

وهو ما يشير إليه المغترب المهندس حنين الشاعر في ماليزيا، الذي يرى أنّ مشاعر الحنين التي يعيشها المغترب اليمني تجاه مأكولات بلاده الشعبية تعكس رابطة عميقة مع الثقافة والهوية اليمنية، وتعدّ الأطعمة الشعبية رمزًا للانتماء والذكريات العائلية والتراث الثقافي، ويشعر المغتربون بالحنين إلى تلك الأطباق التي كانوا يتناولونها في اليمن، وتعمل على إحياء ذكريات الوطن والأحبة. 

وكيف يمكن للمغترب اليمني أن يشبع حنينه إلى المأكولات الشعبية، يشير الدكتور فياض أنّ المغترب اليمني في بلاد المهجر يمكنه إشباع الحنين بالمأكولات اليمنية عن طريق الطهي في المنزل في حالة كان لديه أسرة وعائلة بما توفر لديه من مكونات، أما في حالة العازب ونظرًا لانشغاله إما بالدراسة أو العمل فيراود المطاعم اليمنية باستمرار، التي هي منتشرة حاليًا في كل بقاع الأرض، لكن الطهي في المنزل له قيمة وارتباط خاص نظرًا لما يمثله من تعزيز الثقافة اليمنية والاستمتاع بتراثها عن طريق الممارسة الذاتية.

ويؤكد ذلك المهندس حنين الشاعر قائلًا: “بالنسبة للتعبير عن الحنين للأكلات الشعبية في أرض المهجر، فإنّ العديد من المغتربين يقومون بتحضير تلك الأطعمة في منازلهم، حيث يسعون لاستخدام نفس المكونات والوصفات التقليدية التي تذكرهم باليمن”.

المطاعم اليمنية الشعبية.. يمن مصغَّر

وعن وجود المطابخ اليمنية الشعبية في بلدان المهجر وانتشارها يقول د. فياض: “صراحةً، المطبخ اليمني أصبح منتشرًا في كل بلدان العالم نظرًا لما يمثله من جودة وقبول من مختلف الأطياف، فهذا ساعد كثيرًا في انتشار المطاعم اليمنية الشعبية بمختلف أنواعها، وخفّف بشكل كبير على المغترب شعور الحنين، وفي كثير من مناطق العالم تمثل المطاعم اليمينية (يمن صغير)، يجتمع فيه الأصدقاء والأسر اليمنية للاستمتاع بالأكل اليمني، وتبادل أطراف الحديث؛ لتخفيف من آلام الغربة ومصاعبها”.

وينهي د. فياض حديثه لصوت الأمل بقوله: “إنّ تناول الأكلات الشعبية اليمنية في المهجر يمكن أن يخفف بعض الحنين ويعزز الروابط الثقافية والذكريات الجميلة بالنسبة للمغترب اليمني، على الرغم من أنّها قد لا تُشبع بالكامل ذلك الحنين العميق للوطن وتجاربه الشخصية”.

لكن زرعان يرى أنّه بالرغم من أنّ المغترب اليمني يجد المطاعم الشعبية بأغلب دول المهجر، لكن هناك بعض المؤثرات على الطعم المرتبطة أساسًا بأصناف المواد المستخدمة، التي غالبًا ما تختلف باختلاف البلد والمناخ، وهذا ينطبق أيضًا على طهي البيت في المهجر.  

ومن جهته يقول مهندس حُنين الشاعر: “بالنسبة للتعبير عن الحنين للأكلات الشعبية؛ المغتربون يقومون بتحضير تلك الأطعمة في منازلهم؛ حيث يسعون لاستخدام نفس المكونات والوصفات التقليدية التي تذكرهم باليمن، بالإضافة إلى ذلك، يلجأ البعض إلى تناول الوجبات الشعبية في المطاعم اليمنية الموجودة في المهجر، حيث يحاولون العثور على نكهة وتجربة قريبة من النكهة الأصلية اليمنية”.

المناسبات الدينية وحنين المغترب اليمني

يمارس معظم اليمنيين طقوسهم الدينية في مناسبة رمضان ومناسبة الأعياد الدينية، ويزداد مع اقتراب تلك المناسبات حنينهم لطقوس بلدهم واجتماع العائلة على موائد الإفطار، بالرغم أنّهم يحاولون صنع طقوس بلدهم في المهجر؛ لتظل محفورة في حنايا ذاكرتهم وجزءًا من هويتهم.

هنا الدكتور مبارك العنسي دكتوراه في تقنية المعلومات يعمل في أحد الجامعات الماليزية يقول: “دائمًا ما يكون هناك حنين دائم ومستمر إلى الأكلات اليمنية، هذا الحنين لا يختفي ولا يزول بل   يزداد الحنين والشوق للوطن وموروثاته الثقافية من المأكولات الشعبية، ويتكرر في أغلب المناسبات الدينية، فمثلًا في رمضان نفتقد إلى العبق الرمضاني الذي تتعطر به النفوس، والنسمات الروحانية، والترانيم الشجية من التواشيح الدينية، وأصوات المساجد التي تبث الطمأنينة والسكينة في الروح”.

بالرغم من أنه في ماليزيا وهي بلد مسلم، ولكنها بنظر مبارك مجرد شكليات تخلو من الألفة ولمة العائلة حول مائدة متنوعة بأشهى المأكولات الشعبية اليمنية، يقول مبارك: “يتكرر ذلك الحنين في مناسبة العيد فنشتاق لحلويات العيد الشعبية التي تصنع بيد الأمهات بكل حب وفرح وسعادة، وبحكم أنّني أعيش هنا بدون عائلة فإنّني أعبر عن ذلك الحنين في الولائم لدى بعض العوائل اليمنية أو في المطاعم اليمينية، لكنها لا تحمل نفس النكهة الفريدة والطعم الشهي الموجود في بلدي اليمن”.

اختلافٌ وتحدٍّ

يقول المغترب اليمني حُنين الشاعر: “يواجه بعض المغتربين تحديًّا في إعادة إنتاج نفس النكهات الشعبية التي كانوا يعتادونها في اليمن، قد تكون هناك اختلافات طفيفة في المكونات المتاحة أو طرق الطهي، مما قد يؤثر على النكهة النهائية للطبق، وبرغم هذه الاختلافات، فإن تناول تلك الأكلات في المهجر يعزز الروابط الثقافية والانتماء للمجتمع اليمني”. ويمكننا القول إنّ الحنين إلى الطهي اليمني التراثي يلعب دورًا مُهمًّا في حياة المغتربين اليمنيين، حيث يعبّرون عن هويتهم، ويحافظون على رابطتهم العميقة مع الثقافة والتراث اليمني، سواء عن طريق الطهي في المنزل أو تناولها في المطاعم اليمنية في المهجر.

الرجاء تسجيل الدخول للتعليق.

‫شاهد أيضًا‬

43% يعتقدون أن تنوع المطبخ اليمني أسهم بشكل مباشر في تعزيز التماسك المجتمعي اليمني

صوت الأمل – يُمنى أحمد تلعب الأطعمة الشعبية دورًا هامًا في تعزيز الهوية الثقافية للشعوب؛ ف…