تراث الطهي اليمني.. تاريخ أصيل وهوية شعب

صوت الأمل – هبة محمد

تعود أصول الوجبات اليمنية إلى العصور القديمة، حيث عبَّرت الحضارات القديمة، مثل السبئية والحميرية والأكسومية، عن تراثها الغذائي في اليمن. وعبْر التاريخ، تأثرت الوجبات اليمنية بالمجتمعات الأخرى، مثل المجتمعات العربية والإسلامية والعثمانية والبريطانية، مما أضاف لها تنوعًا وثراءً. وتعد الوجبات اليمنية جزءًا لا يتجزأ من الثقافة اليمنية، وهي من أهم الأطعمة التي تمثل الهوية اليمنية والتراث الغذائي الغني والمتنوع للبلد.

تاريخ المطبخ اليمني عبر الحضارات

يعود تاريخ المطبخ اليمني إلى العصور القديمة، حيث كان اليمن مركزاً للتجارة بين الشرق والغرب، وتركت الثقافات العربية والإسلامية واليهودية والأفريقية والهندية والفارسية تأثيرات على مكونات المطبخ اليمني ونكهاته.

 يقول الشيف صدام عبده الذي عمل في معظم المطاعم اليمنية في اليمن ودول أخرى لسنوات: “تعد الحضارات اليمنية القديمة في اليمن من أهم المنابع التي أثرت على المطبخ اليمني، وقد عبرت هذه الحضارات عن تراثها الغذائي في اليمن، كما تأثر المطبخ اليمني بالعديد من الحضارات المختلفة، مثل الحضارة الإسلامية والعثمانية والبريطانية، وذلك عن طريق تجارة التوابل والعسل والبن اليمني، مما أضاف لها تنوعًا وثراءً داخل اليمن وخارجها”.

بينما يوضح علي العقاب -أستاذ في التاريخ اليمني- أن “المطبخ اليمني قد تأثر بشكل كبير بالتقاليد الغذائية للمناطق المجاورة له، بما في ذلك الهند وشرق أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط؛ فعلى سبيل المثال: تمثل الهند مركزًا للتجارة الدولية منذ العصور الوسطى، ومن خلال هذه التجارة تم تبادل التقاليد الغذائية بين اليمن والهند، ونتيجة لذلك هناك بعض الأطباق اليمنية، مثل البسباس والسمبوسة التي تشبه إلى حد كبير بعض الأطباق الهندية”.

ويواصل: “وكذلك تأثر اليمنيون بالأتراك مما أدى إلى اختلاط العادات والتقاليد ووصلت إلى حد المأكولات؛ فهناك حلوى الرواني المكونة من خليط البيض والطحين والسكر ثم تخبز في الفرن، وهناك الكدم (نوع من الخبز) المصنوع من مجموعة من الحبوب كالدخن والذرة والقمح، وقد كان يوزع للجيش التركي قديمًا لقيمته الغذائية العالية”.

فيما يقول الشاب أسامة يحيى -خريج بكالوريوس فنادق وسياحة- إن الوجبات اليمنية تعتبر جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والثقافية في اليمن، وتُعَدُّ وجبات الطعام في اليمن مصدراً للفرح والترفيه والتواصل الاجتماعي؛ حيث يجتمع الأصدقاء والعائلة حول الطعام لتناوله معا. ويعد المطبخ اليمني مطبخًا فريدًا ومتنوعًا، بنكهاته الشهية والغنية التي تظهر تاريخ الشعب اليمني وثقافته وتقاليده.

وجبات ذات تاريخ وهوية

تتعدد الوجبات اليمنية في المطبخ اليمني التي يعود بعض منها إلى أصول تاريخية جاءت نتيجة التمازج الثقافي بين البلدان، فعندما نذهب قليلا إلى مدينة عدن اليمنية التي تحتوي على تراث ثقافي غني بالمأكولات اليمنية التي جاءت من بعض الثقافات الأجنبية التي استعمرت مدينة عدن لسنوات، فإننا نجد تأثرًا كبيرًا بالثقافة الهندية نتيجة الاستعمار البريطاني ووجود مجموعة من الهنود –آنذاك- ضمن أفراد الجيش البريطاني، هذا ما أفاد به أستاذ التاريخ عارف الرعوي لـ”صوت الأمل”.

وقال الرعوي: “لقد اشتهر المطبخ العدني بجودة البهارات المتنوعة، من الكمون والقرفة والفلفل الأسود وورق الغار والزعفران، التي تضاف إلى بعض أطباق اللحوم والدجاج، وكذا العُشار العدني المكون من مخللات الليمون الممزوجة بالتوابل الحارة ويعد من المقبلات الأساسية في موائدهم، وهي نسخة من المطبخ الهندي التي وصلت إلى عدن قديما من خلالهم”.

وأشار الرعوي إلى أن طبق الصانونة العدني المفضل لدى كثير من العدنيين يمتد من أصول هندية ويطبخ في الهند من أنواع مختلفة من اللحوم، وانتقلت أيضًا النسخة الهندية من طبق البرياني إلى المطبخ العدني، ولكن باسم الزربيان الذي يتكون من الرز البسمتي والبهارات واللحم.

العصيد

ويضيف أستاذ التاريخ الرعوي: “ولا ننسى الوجبة الشعبية اليمنية الشهيرة التي لها طابع خاص في قلب كل يمني، وهي وجبة العصيد اليمني التي تمتد جذورها إلى عدة قرون في التاريخ اليمني، ويعود تاريخها إلى القرون الوسطى، وقد وجدت قديمًا في مناطق القرن الأفريقي، ومنها السودان، وانتقلت إلى المطبخ العربي، وأصبحت الوجبة المفضلة لدى الكثيرين في الوطن العربي لا سيما اليمن التي عشق أبناؤها هذا الطبق وبالذات من المناطق الريفية، التي كانت تحضر العصيدة للفلاحين والعمال؛ لأنها كانت سريعة التحضير وتحمل قيمة غذائية جيدة في نفس الوقت”.

وأشار إلى أن طريقة تحضير العصيد في اليمن تختلف حسب المنطقة، ففي بعض المناطق يضاف الحليب إلى الدقيق أثناء الطهي، وفي مناطق أخرى يتم إضافة الماء والسكر وتُترك على نار هادئة حتى تنضج مع التحريك المستمر. وتقدم العصيدة مع مرق لحم الدجاج أو الأغنام أو الأبقار، وآخرون يفضلون تقديمها مع اللبن أو الزبادي.

المندي اليمني.. شهرة واسعة حول العالم

يتميز الطهي اليمني عن غيره من المطابخ الأخرى ببعض الأطباق الخاصة التي تعد فريدة من نوعها، لكنه الطبق الوحيد الذي انتشر كالنار في الهشيم، وعرف طريقه إلى قلوب الجنسيات المختلفة من العرب وغيرهم، ونال استحسانهم. فلماذا أخذ كل هذه الشهرة والحب عند من كل من تذوقه؟!

لكي نعرف لماذا أخذ طبق المندي تميزه ومساحته الكبيرة من الشهرة حول العالم، يقول الشيف صدام عبده -شيف المندي المتخصص الذي يعمل حاليًا في مطعم يمني في العراق- لـ”صوت الأمل”: “يعد المندي اليمني الطبق اليمني الأكثر شهرة حول العالم، ويعود سبب ذلك إلى طريقة طهيه، وتاريخه وارتباطه بالثقافة والموروث اليمني القديم”.

ويتابع صدام حديثه: “وتعود أصول المندي اليمني إلى محافظة حضرموت اليمنية رغم أن بعض الدول تنسب أصول المندي إليها لكن هذا غير صحيح؛ فقد كانت بداية ظهوره من اليمن في محافظة حضرموت، ومن ثم انتشر في الدول المجاورة”. ويوضح أن سبب تسميته بالمندي ترجع إلى كلمة (ندى) وهو الملمس الناعم والندي من اللحم الذي يوضع فوق الأرز في هذا الطبق الشهير.

ويشرح صدام فكرة طهي المندي قائلاً: “السر في جودة المندي هو طريقة طهيه، حيث يتكون طبق المندي من لحم الضأن أو الدجاج، بعد تتبيل اللحم ويترك لفترة متوسطة ثم يوضع في براميل تحت الأرض، وهو فرن طيني يكون قد أشعل فيها الحطب أو الفحم، ومن ثم يدفن ويطمر بشكل جيد بحيث يمنع دخول الهواء حتى تظل درجة الحرارة مرتفعة، ويترك لمدة ثلاثة ساعات أو أربع، بعدها يُخرج المندي وقد نضج وأصبح مستساغ الطعم ذائبًا في الفم، ويوضع فوق الأرز المطهو ببهارات يمنية تعطيه نكهة مميزة. يقدم طبق المندي مع مقبلات كالسحاوق وهي صلصة حارة مكونة من مسحوق الطماطم مع الفلفل الأخضر والثوم والكزبرة وقليل من الملح”.

السَّلْتَة اليمنية حكاية وتاريخ

تختلف الأكلات الشعبية في اليمن من منطقة إلى أخرى، لكن لا يكاد يخلو أي منزل يمني من وجبة مستمدة من تراث الطهي اليمني الأصيل وهي السلتة اليمنية التي يعشقها اليمنيون صغارًا وكبارًا، ويتناولها ميسورو الحال وذوو الدخل المحدود؛ لارتفاع قيمتها الغذائية وسعرها المناسب مما يجعلها في متناول الجميع، فهي حكاية أجيال تربعت على موائدهم منذ زمن طويل.

عن أصل السلتة اليمنية يقول الباحث التاريخي محمد البعداني: “تأثر الطهي اليمني بثقافة الطهي العثماني عندما دخلت اليمن تحت الحكم العثماني عقوداً من الزمن، ولذلك تعود أصول السلتة اليمنية إلى فترة الوجود التركي في اليمن. وهكذا انتقلت السلتة من الثقافة العثمانية إلى الثقافة اليمنية وأصبحت من الأطباق الرئيسة في المطبخ اليمني”.

ويضيف: “بداية ظهور السلتة في فترة الحكم العثماني في اليمن يعود إلى حكاية متداولة منذ أجدادنا القدامى، ملخصها أن بقايا الأكل، من طعام وخضروات وغيرها، كانت تُوزع على حراس قصر السلطان العثماني، فقام هؤلاء الحراس بخلط هذه البقايا في صحن واحد وإعادة طبخها مرة أخرى، ومن هنا ابتكر اليمنيون إعداد السلتة اليمنية”.

وختم حديثه بالقول: “السلتة ليست وجبة شعبية يمنية شهيرة فقط، بل هي من الرموز العظيمة الدالة على تراث وتاريخ اليمن العريق، وتتكون من لحم البقر أو الأغنام ومرقهما وبعض الخضار، كالفلفل الأخضر والباميا والبطاطا والأرز، ويوضع عليها “مخضوب الحِلْبَة” على سطحها، وتقدم في وعاء مصنوع من الحجر يُسمى “الحَرَضْ” أو “المَدَرْ”، ويفضل الجميع تناولها وهي ساخنة جدا”.

اللَحُوْحْ

يقول أستاذ التاريخ الدكتور عارف الرعوي: “خبز اللحوح، ويسمى قديمًا في بعض مناطق الشمال بـ”الصلِّيح”، يعد من الخبز الشعبي الذي تشتهر بها كثير من المحافظات اليمنية، وتعود أصوله إلى الصومال، وهي صنعة قديمة ذكرها الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب”. واللحوح خبز سريع التحضير، وهو غالبا موجود في مناطق شمال اليمن، مثل بلاد همدان والأهنوم وحجور، وبلاد حجة حيث يسمونه “اللِحِيْح”، وأما سائر مناطق اليمن فلا يستعملونه إلا في رمضان  لإعداد وجبة الشَّفُوت”. ويؤكد الرعوي أن تحضير اللحوح لا يكون إلا من طحين الذرة التي تُعجن مع الماء، ثم يُراب العجين إلى أن يكون رقيقًا جدًا (سائلاً)، ويترك حتى يختمر. تُشعل النار وتوضع المَلَّحَّة عليها. والملحة عبارة عن أداة تشبه الصحن مصنوعة من الحجر أو الطين الذي صار يستخدم نادرًا لا سيما في الريف، أما حاليًا فيستخدم الصحن التيفال لإعداده. يُغَرف العجين السائل في كأس مثقوب من أسفله بمقدار إصبعٍ واحدة، ويصب بشكل دائري على الملحة، وعندما ينضج اللحوح يُنزع، ويكون على شكل قرص دائري كبير. يشبه اللحوح الكنافة في طريقة إعداده، غير أن الأخيرة لا تكون إلا من عجين القمح الأبيض السائل.

الرجاء تسجيل الدخول للتعليق.

‫شاهد أيضًا‬

43% يعتقدون أن تنوع المطبخ اليمني أسهم بشكل مباشر في تعزيز التماسك المجتمعي اليمني

صوت الأمل – يُمنى أحمد تلعب الأطعمة الشعبية دورًا هامًا في تعزيز الهوية الثقافية للشعوب؛ ف…