وصلت معدلات الانتحار قبل العام ٢٠١٥ إلى ٥٠٠ حالة سنويا
صوت الأمل – ياسمين عبد الحفيظ
“كنا نسمع عن إقدام الكثير من الأشخاص على الانتحار، خاصة الشباب الذين يدمنون على المخدرات أو الفتيات اللائي يتعرضن للخذلان من أحبائهم. ومنذ طفولتي وقصص كثيرة يتداولها الناس في مجالسهم، ومنها ما تعرض في نشرات التلفاز”، بهذه الكلمات بدأ سعيد عبد الحليم (75 عاما) حديثه عن ظاهرة الانتحار في اليمن.
مضيفًا: “لكن مقارنة بما نسمعه الآن، فقد كانت حالات نادرة. أما اليوم فصرنا نسمع باستمرار عن حالات انتحار كثيرة، لا سيما من الشباب الذين عجزوا عن تحقيق طموحاتهم، أو الآباء الذين عجزوا عن توفير لقمة عيش لأطفالهم، أو الفتيات اللاتي تعرضن للابتزاز بفعل التكنولوجيا، أو ممن فقدوا ثرواتهم جراء الصراع الذي التهمت نيرانه المنازل والمزارع والمنشآت وممتلكات أخرى”.
ويتابع: “لم تعد وسائل الانتحار ذاتها التي نسمع عنها من قبل، مثل الموت حرقًا أو القفز من مكان مرتفع أو الشنق؛ بل تعدى الأمر إلى أن يبدأ الشخص المقدم على الانتحار بقتل أبرياء، مثلما قصة ذلك الأب الذي قتل أبناءَه ثم انتحر بعدها. وهذه الحالات تتوسع بشكل لافت ومخيف في مجتمعنا وعلى هيئة موت جماعي، وباتت الظاهرة تنتشر وعلى الجهات والمعنيين تحمل مسؤولية ذلك”.
في السنوات الأخيرة لم يعد مصطلح الانتحار غريبًا على اليمنيين؛ بل تعود الناس على سماع قصص ومآسي المنتحرين منذ زمن بعيد، وأصبح أمرًا معتادًا في وقتنا الحاضر بعدما زادت أعداد الضحايا. الأسباب التي تدفع هؤلاء إلى قتل أنفسهم بات يدركها الشارع اليمني دون أن يحللها خبراء علم النفس والمختصون بهذه الأحداث؛ فقد أنجب الصراع منذ أكثر من ثماني سنوات العديد من الويلات التي تدفع بالكثيرين إلى اقتراف هذا الجرم بأنفسهم رغبة منهم في الهرب من ضغوطات الحياة التي يتعرضون لها وتحيط بهم. إلى جانب الكثير من المشكلات الضاربة بجذورها في تاريخ المجتمع اليمني التي جعلت الكثير من الأفراد طُعْمًا لهذه الظاهرة.
وقد لخصت صحيفة “صوت الأمل” دوافع انتحار الكثير من اليمنيين –من خلال مجموعة من اللقاءات أجرتها الصحيفة مع العديد من المختصين- في الفقر والبطالة والمشاكل الأسرية والعادات والتقاليد.
تعريف الانتحار
يعرف الأخصائي النفسي عبد اللطيف العتواني الانتحار بأنه قتل النفس بسبب ضغوط نفسية واجتماعية، وهو الفعل الذي يقدم عليه الفرد عمدًا في قتل نفسه ويكون بسبب اليأس أو يُعزى إلى اضطرابات مثل الاكتئاب والهوس.
بينما عرَّف الأكاديمي ماجد سلطان سعيد -أستاذ مساعد في كلية الإعلام، جامعة عدن- الانتحار على أنه قرار يأخذه الشخص من أجل إنهاء حياته بقتل نفسه بإرادته واختياره لأسباب يعتقد معها أن مماته أصبح أفضل من حياته.
من جهته قال الدكتور عادل الشراعي (أستاذ علم الاجتماع المساعد، جامعة عدن) إن الانتحار هو إقدام الشخص على وضع النهاية المؤلمة لحياته من خلال قتل نفسه، وهناك طرق عدة للانتحار مثل استخدام السلاح والشنق باستخدام الحبال، وتناول السم ورمي الشخص بنفسه من مكان مرتفع أو أعلى شاهق.
الظاهرة قبل وأثناء الصراع
يقول الدكتور الشراعي في حديثه لصحيفة “صوت الأمل” إن ظاهرة الانتحار موجودة قَبْل الصراع المسلح في اليمن، لكن بنسبة ضعيفة. أما بعد اندلاع الصراع فقد ازدادت هذه الظاهرة بشكل كبير، وأغلب حالات الانتحار في هذه الفترة يعود سببها إلى الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية والصعبة التي يمر بها المجتمع بالدرجة الأولى.
ويرى الشراعي إن للظاهرة –سابقًا- عواملَ متعددة، مثل تعاطي الشباب للمخدرات والأسباب النفسية والاقتصادية، وهي عوامل لم يكن بعضها يصل إلى الإعلام ليتحدث عنها. ومن ثم يعتقد أن تفاعل الإعلام والشارع كان قويًا بحكم أن الظاهرة نادرة ودخيلة على سلوك مجتمعنا. بينما الآن فعلى العكس، أصبحنا نسمع بشكل شبه يومي عن حالات انتحار بسبب الأوضاع التي يتركها الصراع.
فيما يقول فضل الشاعري (وكيل محافظة الضالع): “توسعت ظاهرة الانتحار في الآونة الأخيرة في البلاد، والسبب طول فترة الصراع الذي صاحبها تراجع في العملية التعليمية وانتشار الأسلحة وتفشي الحرمان والفقر والعوز. بالإضافة إلى انتشار تجارة المخدرات والشبو وحبوب الهلوسة في البلاد وتوفرها بأسعار رخيصة. وشعور الأفراد بالاغتراب الداخلي في وطنهم”. مؤكداً أن ما حدث ويحدث في البلاد يفوق ما يستطيع تحمله الإنسان السوي.
الفئة الأكثر تضررا
يواصل الشاعري حديثه قائلاً: “المخيف في الأمر أن ظاهرة الانتحار منتشرة بين الشباب، وهذا ما يجب التنبه له والتوقف أمامه وإجراء الدراسات والبحوث لدراسة هذه الظاهرة الخطيرة ومعرفة كيفية وضع السبل والمقترحات لمحاصرتها ومعالجتها والحد من انتشارها”.
من جهته يقول أحمد عبدربه محمد صالح (الأستاذ المساعد بجامعة عدن): “تفشت ظاهرة الانتحار في السنوات الأخيرة، لا سيما بين أوساط الشباب، نتيجة عوامل عدة، منها الصعوبات التي أثقلت كاهل كل فرد في المجتمع، وتحديدا منذ بدء الصراع في بلدنا، وطغى على نفوس الشباب الشعور باليأس وفقدان الأمل في التغيير. إلى جانب صعوبة حصولهم على دعم نفسي أو مساعدة عاجلة بسبب غياب المؤسسات المتخصصة بتقديم مثل هذه الخدمات.
ويشير صالح إلى أن ظاهرة الانتحار بين الشباب والفتيات في المجتمع اليمني من الظواهر الغريبة التي زادت خلال سنوات الصراع، وأن هناك أسبابًا اجتماعيةً وتربويةً تساعد على توسع مثل هذه الظاهرة. ومن هذه الأسباب الانتشار الواسع لبرامج التواصل الاجتماعي التي قد تؤدي إلى وقوع الكثير من الشباب والشابات في فخ الابتزاز الإلكتروني.
ويتابع: “قد يكون الابتزاز ماديًا أو نفسيًا يمارسه بعض الشبابِ المستهتر ضد الفتيات فيقعن فريسةً لهم. وهنا تفضل تلك الفتيات التخلص من حياتهن على أن يُفضحن أمام أسرهن ومجتمعهن. ونلاحظ أن الفتيات في مجتمعنا يعشن تربية قاسية، ولا يسمح لهن أن يكن قويات قادرات على الإفصاح عن أي مشكلة قد تواجههن”.
حول معدلات الظاهرة
يقول رشيد الحداد -خبير اقتصادي- إن معدل الانتحار في أوساط الشباب بشكل خاص يعود إلى عوامل نفسية ناتجة عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين في ظل ارتفاع معدل الفقر والبطالة وانعدام فرص العمل في البلد، يضاف إلى أن ارتفاع نفقات الإعاشة ضاعفت الضغوط على الكثير من اليمنيين؛ ولذلك كانت معدلات الانتحار قبل العام ٢٠١٥، تصل إلى ٥٠٠ حالة وأكثر سنويا، أما اليوم فلا تزال هذه الظاهرة في حالة متصاعدة رغم عدم الإعلان بشكل رسمي عن كل حالات الانتحار.
ويتابع: “تقع الكثير من حالات الانتحار، لكن أسرة الضحية تتكتم –أو تمارس التعتيم- خوفًا من تعرضها للمساءلة، وخاصة في الأرياف والمناطق النائية”. ويؤكد أن ظاهرة الانتحار مرشحة للارتفاع في ظل عدم وجود أي تحسن على المستوى المعيشي رغم اقتراب الهدنة الإنسانية من إنهاء عامها الأول، وأن خفض معدلات الانتحار بحاجة إلى توفير المزيد من فرص العمل للشباب وتوسيع نطاق المساعدات الإنسانية وإعادة صرف المرتبات.
من جهته يقول رئيس رابطة الأخصائيين الاجتماعيين عصام الأحمدي: “لا توجد دراسات أو إحصائيات عن عدد المنتحرين أو الأحداث الأخيرة التي تتعلق بانتحار عديد من الشباب. بالإضافة إلى أن كثيرًا من الأسر تخفيه وتعتبره موضوعًا مسكوتًا عنه في العديد من المجتمعات الريفية والقبلية”.
ويضيف: “في مناطق ريفية، وصلتني كثير من الحالات عبر أشخاص مقربين إلي، وقد رصدنا كثير من الحالات التي تناولت السم. وهو ما يعد انتحارًا لكن الأسر أخفت هذا الأمر وعملت على تغطيته. قد يكون ذلك التستر بدافع الخجل والحياء، ولا ندري إذا كانت هناك دوافع أخرى وراء إخفاء هذه الحالات أم لا”.
يؤكد الأحمدي أن هذا التكتم يؤدي إلى عدم وجود إحصائيات دقيقة، ولا يستطيع الباحثون الحصول على معلومات وإجراء رصد حقيقي لمثل هذه الحالات. وهذا سيكون له انتكاسات؛ لأن عدم وجود أرقام صحيحة يبنى عليها خطط وبرامج تحد من الانتحار قد يؤدي إلى عدم وجود حلول جذرية تحد من هذه المشكلة من الأساس.
حول الظاهرة
تقول مليون محمد الثمري (أخصائية علم النفس الإكلينيكي): “يعاني كثير من الناس من الأعراض الاكتئابية التي قد تتطور إلى ما يسمى بالذهان، وتظهر عليهم أعراض مثل الهلوسات (سمعية، بصرية، شمية، تذوقية، لمسية). وتبدأ المعتقدات الخاطئة من اعتقاد الشخص أن من حوله يريدون قتله، أو وجود شكوك حول خيانة الزوجة، أو اعتقادات بالعظمة وأنه شي مهم في العالم، وأنه ملاحق من المخابرات وغير ذلك. إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة فإنه قد يفكر بالانتحار، وهذا يعني أنه وصل إلى مرحلة اليأس”.
وترى الثمري أن للعوامل البيئية والاجتماعية دورًا مهمًا في تفجير الأفكار الانتحارية، إلى جانب نمط الشخصية نفسها. ويمكن أن يكون للجينات الوراثية أثر في الميول الانتحارية.
تتفاقم معاناة اليمنيين عامًا بعد آخر، ومعها تكثر حوادث الانتحار. لقد باتت الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي تتناول العديد من القصص الحزينة والمؤلمة عن أشخاص أقدموا على إنهاء حيواتهم. هذه الظاهرة بحاجة إلى حلول جذرية تحد منها مستقبلا، وبحسب مراقبين وخبراء في الظواهر والمشكلات الاجتماعية فإن الحل الأنسب للخلاص من الظاهرة هو توقف الصراع الذي ينتهي معه العديد من المشاكل التي تحاصر اليمنيين، إلى جانب تفعيل مراكز الدعم النفسي ونشر التوعية وتنشيط دور الإعلام في تناول الظاهرة ومناقشة حلولها وكيفية محاربتها.
85% يرون أن استمرار الصراع هو المسبب الرئيس لانتشار ظاهرة الانتحار في اليمن
صوت الأمل – يمنى أحمد غالبًا ما تتسبب الصراعات والنزاعات المسلحة في بعض البلدان بحالة من ف…