اليمن تراث ثقافي متنوع

صوت الأمل – محمد طه الأصبحي (مدير عام الآثار في الهيئة العامة للآثار والمتاحف)

إن التنوع الثقافي للجمهورية اليمنية بشقيه المادي واللامادي، يجعلنا أمام تراث عريق يمتد لآلاف السنين. ومع هذا حظي اليمن باهتمام كبير من قبل الدول ممثلة بوزارة الثقافة والهيئات التابعة لها والبعثات الأثرية العاملة في مجال الآثار والمدن التاريخية والمنظمات الدولية من خلال دراسته والكشف عنه.

فقد تم الكشف عن كثير من المواقع الأثرية في الإطار الجغرافي للجمهورية اليمنية لمختلف العصور، وقد أثبتت نتائج الأبحاث الأثرية أنَّ تلك الثقافات تعبر عن قدرة الإنسان اليمني القديم على بناء مجتمعات منتجة؛ حيث استطاع أن يُسخر الظروف المحيطة به لصالحه.

 وهذا يجعلنا أمام تراث ثقافي متنوع يجب علينا حمايته وصونه والتنقيب عنه ودراسته وتوثيقه وتوفير سبل الحماية له.

 لقد تعرضت الآثار اليمنية للكثير من الأزمات المتكررة المتمثلة في عوامل بشرية وغير بشرية، وأخطرها العامل البشري الذي أصبح الأكثر إضراراً بالتراث في ظل انعدام التوعية بأهمية المحافظة على هذا التراث. يؤثر البشر سلبياً في تدمير بعض المواقع الأثرية نتيجة النبش العشوائي والاتجار غير المشروع بالآثار المنقولة وتدمير المعالم والهياكل المعمارية والتاريخية في سبيل الحصول على ثروة سريعة دون إحساس بالمسؤولية تجاه الوطن ولا الشعور أن قيامهم بذلك هو صورة من صور الخيانة الوطنية.

لقد كنا سابقاً نعاني من تلك العوامل وتمت مواجهتها في ظل التشريعات والقوانين النافذة في البلاد؛ لتجنيب المواقع الأثرية والمعالم والمدن التاريخية العديد من المخاطر.

إنَّ أعمال نهب الآثار ونقلها إلى الخارج مسألة قديمة ومستمرة، خاصة إذا علمنا أنَّ المواقع الأثرية في اليمن كثيرة، وتحتاج إلى المزيد من الحرص والوعي لأهمية كل أثر، كما أنَّ فقدانه أو الاحتفاظ به أو عرضه في بقعة أخرى من العالم يشكل نقصاً في مدلوله العلمي والثقافي لدى الباحثين والمهتمين.

فقد اهتمت المؤسسات العلمية والمتاحف العالمية باقتناء الآثار والنقوش اليمنية منذ بدء الرحلات الاستكشافية في القرن الثامن عشر، ثم بتنظيم من الاستعمار البريطاني تم تشجيع عملية بيع الآثار وتهريبها إلى الخارج في القرن الماضي وخاصة قبل ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م بواسطة شبكات تجميع الآثار ونقلها إلى عدن مقر تجار وسماسرة الآثار ومنها إلى الخارج.

ولهذا نجد الآن كميات كبيرة من النقوش والقطع الأثرية في حوزة المتاحف العالمية ولدى أرباب المجموعات الأثرية الخاصة، هذا وقد استمرت عملية الاتجار غير المشروع بالآثار وتهريبها قائمةً منذ تلك الفترات وحتى يومنا هذا، حيث تطورت باستخدام أساليب وتقنيات حديثة لهذا الغرض.

 ونظراً للحاجة الماسة لاتخاذ الوسائل الوقائية من أجل الحماية اللازمة للموروث، الثقافي أخذت مؤسسات حماية التراث على عاتقها ووضعت لنفسها مهمة استراتيجية الحفاظ على المورث الثقافي الحضاري بكل الطرق والسبل الممكنة، ومن خلال تحديث وتطوير آليات ناجحة للوصول إلى تحقيق هذا الهدف.

ولمواجهة تزايد الاتجار وتهريب الآثار واتساع أعمال النبش والحفر والتدمير للمواقع الأثرية اليمنية، واستغلال الأزمات التي تمر بها اليمن؛ فقد رأت مؤسسات حماية التراث ضرورة استحداث وتطوير العمل للحد من هذه الظواهر من خلال حلقة تواصل بين الهيئة العامة للآثار والمتاحف والجهات ذات العلاقة داخلياً وخارجياً، بحيث تتواكب مع هذه المتغيرات والمستجدات، مع الاستفادة من الخبرات الدولية في هذا المجال.

 كما توجهنا نحو تشجيع الحرفيين من خلال السماح لهم بإنتاج وإخراج الصناعات الحرفية التقليدية الجديدة والمشغولات اليدوية الحديثة للموروث اليمني، وفق خطة الدولة للترويج السياحي عالمياً من جهة ومن جهة أخرى للحد من ظاهرة الاتجار بالآثار، وذلك بالاشتراك المباشر مع الجهات الأمنية والجمارك استناداً إلى ما ينصه قانون الآثار.

إنَّ الحفاظ على الآثار  لن يتم دون أن تتولى الدولة مهمة ذلك، وفي الوقت نفسه لن تنجح الأجهزة المعنية في أداء هذه المهمة إلا إذا كان المجتمع في مجمله يؤمن بأهمية الحفاظ عليها، ولن ينحسر الإتلاف والتهريب والنهب للآثار والمواد التراثية إلا إذا انتشر الوعي بين الناس وأصبحت تلك الممارسات تصرفات غير مقبولة في المجتمع بحيث يعمل الجميع على الحد من تجارة الآثار وتهربيها ويتعاونون مع الجهات المختصة فيما تقوم به من برامج ومشروعات تهدف إلى الحفاظ عليها، وهكذا ينبغي أن تكثف الجهود التعليمية والتربوية في مجال نشر الوعي الأثري وأن تتواصل بانتظام وتتابُعٍ، حتى تصل إلى إحداث التغيير المطلوب في الرأي العام.

إنَّ مفهوم الآثار لا يكتمل دون مفهوم محافظة المجتمع عليه؛ فقيمة التراث الأساسية تكمن  في أنَّه يمثل موروث الأمة وحكمتها وحسها الجماعي وعامل وحدتها الأساسي الذي ورثته من الماضي، وبه تستعين على تشكيل وعيها كونها أمة في الحاضر،  وهي لن تفيد منه إلا إذا أحست بضرورة التعرف عليه، وجاهرت في سبيل البحث عن الذات من خلاله، وأعدت نفسها لتحمل مسؤولية نقله إلى الأجيال القادمة. ومبدأ ذلك كله يكون بتحمل المجتمع مسؤولية الوعي بهذه الآثار والبحث عنها وإبرازها والمحافظة عليها وحمايتها، وحبذا لو تم ذلك في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان وليس بعد ضياع ما كان ينبغي له أن يُحفظ ويُعمم ويُورَّث.

ومفهوم الحفاظ على التراث وحمايته يتمثل في مجالي الآثار والتراث الشعبي، على سبيل المثال والاصطفاء. وهما دلالتان متكاملتان  في الدلالة، الأولى يقصد بالحفاظ معنى الحماية والمحافظة على الآثار والمعالم والمواقع التاريخية والإبقاء على الشواهد التراثية كما وصلتنا دون تعديل أو تغيير يمس جوهرها أو إتلاف يشوهها أو نهبها وسرقتها وتهريبها، ذلك لأنَّ شواهد الماضي كالمواقع الأثرية الباقية من الأزمان الماضية لا تتزايد أبداً وإنَّما تتناقص باستمرار نتيجة الإتلاف والنهب وحركة التنمية الحديثة التي باتت تصل إلى كل مكان،

ولا بد حينئذ من الإبقاء على أكبر عدد ممكن من تلك المادة التراثية حتى يتيسر لأجيال الحاضر والمستقبل الإفادة من المصادر والمعلومات التي تنطق بها تلك الشواهد، كونها سجلاً للعمران البشري عبر الآلاف من السنين في بيئة متغيرة أملت شروط الحياة على ذلك العمران وصاغته على هيئتها.

ومعنى الحفاظ والحماية في الدلالة الأخرى إحياء ذلك التراث الأثري كونه خليفة لتكويننا الحضاري، عن طريق صيانته وترميمه والكشف عنه وفق الأساليب العلمية وجمعه وإبرازه والتعريف به ودراسته، وفي مقدمة ذلك كله حصره وتسجيله بحيث يصبح الأثر معروفاً مفسراً معمق المفهوم، بل في بعض الحالات إعادة توظيفه توظيفاً نافعاً وتشجيع إنتاج الجيد منه.

إن الحفاظ والحماية بهذا المعنى لا يعني وضع التراث الأثري في علبة حافظة وتحنيطه في المتاحف أو وضعه في مخازن وما يشبه ذلك لمجرد رغبة رومنطيقية تذكي الحنين إلى الماضي، أو من أجل تصوير فيلم شائق نُرضي به السواح، أو لأنَّ الحفاظ على الآثار ترف أو موضة أو مجرد هواية محبوبة لدى فئة من ذوي المال.

وقد يظن البعض أنَّ الدعوة إلى حماية التراث والآثار تحمل في طياتها اتجاهاً سلفياً أو رجعياً، ولكن في هذا الواقع ظن آثم وفيه حيف وتجاوز، وإلا كيف يمكن لنا أن نستوعب مفهوم التراث الذي يجعل في صميم معناه وفي أكثر من لغة حية دلالة النقل والاستمرار، أي أنَّ الاهتمام بالتراث والآثار ليس حنيناً مغرقاً إلى الماضي وليس مجرد عودة خيالية  إليه أو حالة رد مثالية، وإنما هو بكل بساطة اهتمام بالأمر الواقع والطبيعي، وهو نقل واستمرارية لما كان موجوداً وثبتت صحته وجربه الناس في موطنهم، وهو ما يعبر عنه عادة بالحكمة الكامنة في وعي الأمة، أو بروح المجتمع أو بالشخصية القومية، أو الشخصية الوطنية أو بالحس الجماعي، أي هو كل ما يتمثل بالموروث المميز الذي يعيه الناس في قرارة أنفسهم ويحافظون عليه جيلاً بعد جيل، ويعبر عن أعماق وجدانهم ويعكس وحدة هويتهم.

وترتبط عملية الحفاظ على الآثار ارتباطا وثيقاً بفهمنا لجوهر التراث ووعينا بأهميته؛ فكلما استوعب المرء معطيات العصر واتخذ طرفاً من أسبابه وأحسن مشوار الحداثة الذي يقطعه، اكتسب بموازاة ذلك وعياً بذاته وإحساساً بمكانته من الوجود في هذا العالم، وأيقن بأنَّ الوسيلة الرئيسة المهيأة له لعملية الوعي والإدراك لتراثه هي الأخذ بالأساليب الحديثة في العلم والتقنية التي تحدد في الواقع موقفنا من آثار الماضي وتراث الحاضر والمستقبل، إذ إنَّ وعينا بأهمية التراث لا يتأتى إلا بدخولنا العصر والمشاركة في مسيرة ركبه، والأصالة لا تتحقق فعلاً إلا من خلال الحداثة.

الرجاء تسجيل الدخول للتعليق.

‫شاهد أيضًا‬

استطلاع لـ YIC: 75  % من الآثار اليمنية لا تتمتع بالحماية الكافية

صوت الأمل كشفت نتائج استطلاع إلكتروني أجراه يمن انفورميشن سنتر بداية شهر مايو 2022م حول (ا…