توفر الأيدي العاملة ومواد البناء عامل محفّز لبقاء العمارة اليمنية برونقها المتجدد
صوت الأمل – أحمد باجعيم
تعتمد العمارة اليمنية القديمة على مواد بسيطة ومتوفرة في البيئة المحلية، وتتنوع هذه المواد بحسب المناطق والمواقع الجغرافية المختلفة، تشتمل على مواد البناء الرئيسية في العمارة القديمة (الحجر، الطين، الخشب، القش)، وكما تعدّ الأيدي العاملة جزءًا حيويًّا من الإرث المعماري؛ فمهارة البنّائين في استخدام هذه المواد وتشكيلها وتجميعها تجسد عبقرية منظورهم الجمالي للعمارة.
ومن خلال هذا التحقيق، سنناقش بالتفصيل مع مهتمين بهذا المجال – الأيدي العاملة ومواد البناء في العمارة اليمنية القديمة، وسنسلط الضوء على الابتكارات والتقنيات التي تستخدم في البناء خلال تلك المدّة، التي أسهمت في إبراز الثروات الثقافية والتاريخية، التي تحملها العمارة اليمنية بفنونها المتعددة، فهي تعكس تراثًا فريدًا يعود تاريخه إلى عصور مضت، لذا تعدُّ الأيدي العاملة في العمارة صاحبة الفضل في بروز الفن المعماري المحلي وإشهاره على المستوى الدولي.
توفر الأيدي العاملة.. حضرموت نموذجًا:
أكد الباحث في مجال العمارة الطينية المهندس مازن المساوى أنّ الأيدي العاملة؛ من فنيين وبنائين وعمال، ما تزال موجودة إلى اليوم، رغم أنّها قلَّت نسبيًّا عمَّا كانت في الماضي، وتعدُّ ميزة حسنة؛ إذ استطاعت مدن وادي حضرموت المحافظة عليها، واستبعد أن يكون ضمن العاملين في العمارة الطينية سواء في الماضي أو الوقت الراهن مهندسون من خريجي الجامعات، أو متخصّصون أكاديميون بهذا المجال، وإنما بالمهارة والخبرة حلَّ البنّاؤون مكان المهندسين في التشييد، ورسم التصاميم بكل قدرة وإتقان.
وأشار المهندس المساوى إلى أنّ العمالة التي تمتهن العمل في العمارة الطينية بمختلف مناطق وادي حضرموت تعمل بنفس المعايير التي تلقوها من أجدادهم في النمط المعماري القديم، ولديها المقدرة بمواصلة العطاء بالمواصفات، التي اشتهرت بها حضرموت أو الفن المعماري اليمني منذ وقت مبكر، إلا أنّ فرص العمل للعمالة بهذا الشأن انخفضت تدريجيًّا مع التوسع في البناء الحديث والعمارة الأسمنتية في أغلب المناطق اليمنية، وهو ما يتطلب توعية بأهمية العمارة اليمنية التقليدية ومكانتها في التراث الثقافي اليمني، وتعزز من فرص الاستثمار فيها.
إلى ذلك أوضح أمين جمعية العمارة الطينية بمدينة شبام برك باصويطين، أنّ الجمعية تضمُّ أكثر من (3500) عضو من عمال العمارة الطينية، وحوالي (35) معلّمًا وخبيرًا وبنّاءً، لذا فإنّ الأيدي العاملة في مناطق وادي حضرموت في الوقت الراهن تتوفر بكمية كبيرة؛ تسهم الجمعية بشكل واضح في توفير فرص عمل للأعضاء المنتميين إليها؛ من خلال فتح قنوات تواصل مع المنظمات الدولية والسلطات المحلية والهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية والصندوق الاجتماعي للتنمية.
وقال باصويطين في تصريح خاص لصحيفة (صوت الأمل) إنّ الجمعية تقدّم دورات تدريبية وتأهيلية للمنضمين إليها؛ من أجل الحفاظ على النمط المعماري القديم، وكذا فتح صندوق العون للأعضاء لمساعدتهم في وقت الأزمات أو المخاطر أثناء العمل، وأيضا تبني المشاكل وحلحلتها إن وجدت بين أرباب العمل والعمال، وكذلك تشرف الجمعية على توزيع العمال في المشاريع والأعمال كلًّا حسب اختصاصه، ووفق الحرفة التي يمتهنها.
وذكر باصويطين أنّ وجود البنّائين والمهندسين والحرفيين في مجال الفن المعماري الحضرمي أو اليمني مهمٌّ جدًّا، خصوصًا في المناطق التي يوجد بها هذا الفن للمحافظة على النمط المعماري القديم، وأيضًا لهم دور بارز في بقاء الكثير من المناطق ضمن مواقع التراث العالمي، بعكس بعض الأماكن المهددة بالخروج من قائمة التراث العالمي؛ لعدم توفر المختصين فيها، مشدّدًا على أنّ هناك تفاهمًا كبيرًا في مدينة شبام بين الأيدي العاملة والسكان؛ للحفاظ على العمارة الطينية لما تحمله من تراث تاريخي عريق.
مبيّنًا أنّ جمعية العمارة الطينية بمدينة شبام تعمل على دراسة مع المهندسين والمختصين لترميم البنايات الأثرية، التي تتميز بطابع الفن المعماري اليمني بمختلف مراحله المعمارية للتغلب على عوامل التغيرات المناخية والتعرية، مع البقاء بنفس النمط القديم، حتى لا يشوه المنظر العام للعمارة الطينية، التي تمتاز بها المدن والمناطق في وادي حضرموت، كما تمَّ افتتاح متحف في مديرية شبام عام 2010م، تتوفر فيه جميع الأدوات التقليدية القديم التي تحتاجها الأيدي العاملة في تشييد العمارة مع دليل عن كيفية استخدامها، والمراحل التي تتطلبها تلك الأدوات.
وفي ذات الصعيد تطرق رئيس نقابة الأيدي العاملة بمدينة تريم صابر جابر، إلى توفر الأيدي العاملة بكثرة في العمارة الطينية بمدينة تريم، التي تعدُّ مركزًا تاريخيًّا وملتقًى لأمهر خبراء العمارة في وادي حضرموت، على الرغم من قلة الأعمال فيها إلَّا أنّهم ما زالوا محافظين عليها كتراث تقليدي ومصدر دخل وحيد للكثير ممّن توارثوا هذه المهنة عن أجدادهم إلى يومنا هذا، وتعمل النقابة جاهدة إلى رفع صوتهم إلى الجهات المعنية الحكومية ومنظمات المجتمع المدني؛ للحفاظ على هذه المهنة، والتخفيف من معاناة العاملين فيها.
وأضاف رئيس النقابة -التي تأسست مطلع عام 2022م – في تصريح خاص ل (صوت الأمل) أنّه في ظل الطفرة المناخية التي يشهدها العالم اليوم تعد العمارة الطينية بديلًا مناسبًا في بيئتنا، خصوصًا في المناطق التي تتميز بارتفاع درجات الحرارة، لِمَا للطين من خصائص فريدة؛ إذ يعمل الطين كمادة عازلة للحرارة صمدت في أقسى الظروف المناخية، التي مرت على المنطقة، وبالطبع الأيدي العاملة لها الدور الأول في الحفاظ عليها من الدمار والعوامل المؤثرة وضمان استمرارها، كما أنّهم كسبوا الخبرات من أجدادهم، وعملوا على تطويرها مع بقاء العمارة بأنماطها القديمة والمعروفة تاريخيًّا.
توفر مواد البناء
وعن توفر مواد البناء للفن المعماري اليمني لفت الباحث في مجال العمارة الطينية المهندس مازن المساوى إلى أنّ مواد البناء توجد بشكل وافر في جميع المناطق، وهي مواد طبيعية بحتة، ولا تحتاج إلى معالجات أو مصانع، كما أنها قليلة التكلفة المادية، بعكس مواد البناء في العمارة الحديثة التي تستخدم اليوم، وعلى سبيل المثال تتطلب العمارة الطينية في حضرموت إلى المواد الأساسية في البناء والتشييد وهي: (الطين) ويعدُّ المادة الرئيسية تتبعه مواد أخرى ك حجر الأساس؛ وهو قاعدة العمارة، بالإضافة إلى (القش) أو كما هو معروف محليًّا (بالتبن) وهي مادة تخلط مع الطين لتعطيه قوة وتماسكًا أكبر.
وواصل الباحث المساوى تصريحه قائلًا، أمّا المواد التي تدخل في التشطيبات النهائية للعمارة وهي (النورة)، التي تعطي اللون الأبيض للعمارة، وهي عبارة عن الحجر الجيري يسخن في الأفران ليتكون الجير الحي، يضاف إليه الماء، ويخلط ليكون جاهزًا للاستخدام، وهي مقاومة للأمطار، وتنتشر العشرات من هذه المعامل في مدن وادي حضرموت وبعض المحافظات اليمنية، وكذلك يستخدم في أسقف البيوت الأخشاب كخشب السدر والأراك، وما يميز هذه المواد أنها متوفرة في البيئة المحيطة بالإنسان، وتكلفتها المادية زهيدة مقارنة بمواد العمارة المسلحة أو الإسمنتية.
ومن طرفه اختتم حديثه أمين جمعية العمارة الطينية بمدينة شبام برك باصويطين بالقول أن مواد البناء التي تستخدم في الفن المعماري اليمني شبه متوفرة بمختلف محافظات الجمهورية، التي تستخدم إلى اليوم في تشييد العمارة اليمنية بتنوع فنونها؛ كالفن المعماري الحضرمي، والصنعاني، واليافعي، والتهامي، ومن هذه المواد الحجارة بتعدد أنواعها، والأحجار الجيرية، والطوب المحروق، مثل البازلت والرخام، وكذا الطين، بالإضافة إلى أخشاب بعض الأشجار والقش والنورة، كما تختلف طريقة استخدام تلك المواد من فن معماري إلى آخر، وكل ذلك مأخوذ من الطبيعة والبيئة المحيطة بنا.
وفي الختام، يمكن القول إنّ العمارة اليمنية القديمة تمتاز بالتنوع والإبداع، كما أنّ الأيدي العاملة ومواد البناء المحلية لعبت دورًا مهمًّا في بقاء العمارة متجددة، وفي تطور مستمر، مع الحفاظ على خصوصيتها الفريدة القديمة، وأظهرت الأيدي العاملة الممتازة ومواد البناء الطبيعية المتوفرة بكثرة وبتكلفة قليلة إقبال على هذا الفن حتى اليوم، خصوصًا في مدن حضرموت ومناطقها، التي ما زالت تنشئ مبانيها وفقًا لفن العمارة التقليدي الأصيل حتى الوقت الراهن. لكن الأمر يحتم على الجهات ذات العلاقة وضع استراتيجيات محددة لحفظ هذا التراث المعماري الثمين، كما يجب الاهتمام بالأيدي العاملة وتدريبها وتطويرها في هذا المجال لتحقيق المزيد من الإبداع المستقبلي في العمارة اليمنية القديمة والحفاظ على تاريخ اليمن وتراثها الكبير.
82% يرون أن انتشار طابع العمارة الحديث من أكبر المشكلات التي تواجه الحفاظ على الطابع التقليدي للعمارة اليمنية
صوت الأمل – يُمنى احمد عرفت اليمن منذ زمن بعيد بجمال عمارتها وتفرد مبانيها بطابع خاص ومميز…