‫الرئيسية‬ الأعداد السابقة فن العمارة في اليمن “غُرْقَةْ الْــقَــلِيْس”.. ملامح دينية وآثار يمنية

“غُرْقَةْ الْــقَــلِيْس”.. ملامح دينية وآثار يمنية

صوت الأمل – حنان حسين

عندما تسمع عن كنيسة القَلِيس لا تتوانى عن زيارتها بهدف الاستكشاف، فتذهب إليها على أمل إيجاد مبنى أو آثارٍ تدل على ما شهد له المؤرخون بجماله المعماري والزخارف البديعة التي كسته، لكنك لا تجد إلا سورًا من الحجر يعلوه حاجز من الحديد، وفي داخله شجيرات ونفايات تغطي أطلال الحفرة العميقة وسط ذلك السور.

موقعها

كنيسة القَلِيس تقع في صنعاء، في قلب المدينة القديمة أو كما يطلق عليها “صنعاء القديمة”، غربي قصر السلاح، في جنوب سوق الملح، في حارة القطيع قرب مسجد نصير داخل المدينة، حيث يوجد فيها صرح واسع حُفر في وسطه “غُرقَةُ القَلِيس”.

التسمية

القليس معناها الكنيسة، وفي الحبشية تعني “المعبد”، وهي المقابل العربي للفظة اللاتينية “إيكليسيا”، وربما كانت قلبًا لكلمة كنيس، ومنها كنيست أي (المجمع) في السامية القديمة، والبعض يطلق عليها القليس لارتفاع بنيانها وعلوها، ومنه القلائس لأنها في أعلى الرؤوس.

وبحسب الدكتور علي سعيد سيف – أستاذ في قسم الآثار بجامعة صنعاء- فإنها تنطق بضم القاف وتشديد اللام “القُلَّيس”، وبعض المؤرخين يرون أن هذه طريقة المستشرقين، لكن نطقها الأساسي كما يرون هو “القَلَيس” بفتح القاف وكسر اللام.

وترجِّح بعضُ المصادر التاريخية سبب تسميتها بـ”غُرقَة” بدلًا عن كنيسة هو لإخفاء أي معالم للدين المسيحي في اليمن. وعما إذا كانت “غُرفة” أم “غرقة”، فجميعها تشير إلى الحفرة الواسعة التي بنيت عليها.

يؤكد الباحثون أن مقر الكنيسة سابقًا -أي قبل قدوم أبرهة الحبشي (أبرهة الأشرم)- كان معبدًا لسكان صنعاء، لما له من قيمة كبيرة لديهم، فغيَّر أبرهة ذلك المعبد إلى كنيسة، وصل ارتفاعها إلى علو 20 مترًا، وجعل لها سورًا يمتد على مدى 200 مترٍ، وصنع لها ممرات للسيول حتى لا تتأثر بها.

تاريخها

شُيِّدت القليس في القرن السادس الميلادي، أي سنة 735م، بعد اثني عشر عامًا من غزو الأحباش لليمن سنة 527م، فعندما تمكن الأحباش من هزيمة “شميفع آشوع” آخر ملوك الدولة الحميرية، وبعد بسط نفوذهم على صنعاء التي اتخذوها عاصمة لليمن، تولى أبرهة الأشرم بِنَاءَ كنيسة القليس التي أراد أن يصرف الناس إليها، واتخاذها مكانًا للعبادة بدلاً عن الكعبة في مكة المكرمة، ووفق المصادر أنه ذهب إلى مكة لاجتثاث الحجر الأسود والمجيء به إلى صنعاء لجلب الحجاج إليها.

استخدم أبرهة الحبشي أسطورة تقول “إن المسيح سيعود إلى صنعاء وسيصلي في مكان ما فيها”؛ لذلك بنيت في منتصف القرن الخامس الميلادي تقريبًا، بشكل مقارب للكنائس الشهيرة مثل كنيسة القيامة في القدس التي بنيت خلال الفترة 328 – 336 ميلادية، وكنيسة المهد التي بنيت في بيت لحم سنة 333 ميلادية.

وتطرق مؤرخون، منهم لسان اليمن الهمداني والطبري في القرن الخامس الهجري، إلى أن أحد النقوش المكتوبة على باب الكنيسة كان نصها يقول: “بنيت هذا لك من مالك ليذكر فيها اسمك وأنا عبدك” في إشارة من أبرهة إلى السيد المسيح عليه السلام. والكثير من المؤرخين ذكروا أن القليس كانت على قُطْرِ قُبَّة عملاقة تصل إلى حوالي 20 متراً، وحتى الآن لا يوجد أي مسح أثري أو تخطيط لهذا المبنى.

ظلت كنيسة القليس قائمة حتى هُدمت، وهناك من يقول إنها هدمت في أيام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في بداية النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي عام 753م، والبعض يقول إنها هُدمت على أيدي أئمة الشيعة في اليمن.

البناء والعمارة

يعد بناء كنيسة القليس من المعالم البارزة في تاريخ العمارة اليمنية في صنعاء، فقد كان عبارة عن بناء مرتفع يصل ارتفاعه الى خمسة أمتار وقطره نحو 50 مترًا، محاط بساحة واسعة كفناء دائري حول البناء، لقضاء وقت النزهة فيه، وفيه سلم شديد الانحدار مصنوع من حجار المرمر يُوصِل الزائر إلى أعلى المبنى، وفي داخله جناح ثلاثي طوله خمسون متراً وعرضه خمسة وعشرون متراً. أبوابه مطلية بالفضة والذهب، وكانت ترتكز العقود داخله على أعمدة من الخشب الباهظ الثمن، ومزخرفة ومنقوشة بأوتاد من الذهب والفضة.

أحد أجنحته كان جناح المصالب ذي الأقواس، الذي يصل عرضه إلى 12 متراً، يمر من الجناح رواق مزين بأشجار مطعمة بفسيفساء من المرمر الملون، وكان منفصلًا عن الجناح الآخر بسلسلة من العقود المبنية على أعمدة من المرمر، وهي مكونة من حواجز هائلة من مادة الأبنوس وأخشاب باهظة الثمن، إضافة إلى أنها رصعت بالعاج، وزينت بعدد من النقشات الجميلة.

كانت المذابح المقدسة تقع أمام الهياكل، وتحوي أبوابًا مموهة بالذهب ومرصعة بالأحجار الكريمة، وفي وسط كل لوحة يوجد صليب من الذهب، وحول الصلبان الذهبية حفرت نقوش من الورود والزهور المختلفة التي تجعل الزائر مندهشًا ومنبهرًا.

كانت سيقان الأعمدة أسطوانية الشكل، مغطاة بتشبيك زهري من رسوم الكروم الملتوية، أما رؤوس الأعمدة وقواعدها فكانت مزينة من كل جهة بأزواج من أوراق الأقنشيات المتخالفة والمصغرة، ويكون ميلن الأقواس نصف دائري، ومحاطة في الغالب بصلبان.

ووفقًا لدراسة أسلوب بناء أعمدة وتيجان كنيسة القليس هناك احتمال قوي أن أسلوب البناء جاء مشابهًا لأسلوب بناء كنيسة مدينة ظفار التي بناها الأحباش بعد استيلائهم عليها، وقد أحرقها الملك الحميري يوسف أسأر يثأر، عندما قاد حمله عسكرية شنها في القرن السادس الميلادي على مدينة ظفار عام 518م.

وبحسب حديث أستاذ الآثار في جامعة صنعاء، الدكتور علي سيف، أنه بُني على رأس الكنسية في القمة من الخارج بُرْنُس (غطاء يغطي قمتها) فإذا ما أقبل العيد يكشف عن هذا الغطاء، فيتلألأ رخامها مع ألوان الأصباغ التي عليها بشكل مدهش.

 ويضيف قائلا: “كانت مستطيلة الشكل، بشكل ثماني، وهذا التصميم يتفق مع التصميم الذي كان يستخدم في إثيوبيا، وكما يقول البعض إنها تشبه كنيسة القيامة”.

غرفة القليس التي كانت معمارًا مشيدًا بأسوار وأدوار عملاقة وشهيرة باتت اليوم سورًا دائريًا مبنيًا من الحجر، وتظهر كحفرة كبيرة بعمق يصل إلى خمسة أمتار، تحوي بضع شجيرات ويعتليها لافتة معدنية صنعتها هيئة التعاون الأهلي للتطوير سنة 1976م، ومسورة بسور حديدي، هي كل ما تبقى من بقايا كنيسة القَلِيس.

الرجاء تسجيل الدخول للتعليق.

‫شاهد أيضًا‬

82% يرون أن انتشار طابع العمارة الحديث من أكبر المشكلات التي تواجه الحفاظ على الطابع التقليدي للعمارة اليمنية

صوت الأمل – يُمنى احمد عرفت اليمن منذ زمن بعيد بجمال عمارتها وتفرد مبانيها بطابع خاص ومميز…