التدهور الاقتصادي يهدد تراث الطهي اليمني الأصيل ويحول دون الحفاظ عليه
(صوت الأمل – (ياسمين عبد الحفيظ – حنين الوحش
منذ عام وإسماعيل فتيني، البالغ من العمر 19 عاما ويسكن في المخا، يتجشم عناء الاستيقاظ مبكرًا، لن يكون عليه إخلاء ما كانت تعتبر غرفته وتحولت فجأة إلى مطعم شعبي، بل وأكثر من ذلك فعليه الاستعداد لطهي ما يقارب 40 طبقًا من “السلتة”، كحد متوسط لعدد نزلاء مطعم المنزل.
يعمل والد إسماعيل فتيني معلمًا، مضى وقت طويل وهو يبحث عن حلول بديلة يستطيع من خلالها كسب لقمة العيش وتأمين مصدر جديد للعائلة، خصوصا منذ توقف راتبه الحكومي. ومع زيادة إقبال الناس على المخا، وما يقابله من تنامي الاحتياج السكاني للمطاعم يقول إسماعيل: “كثير من الناس تركوا منازلهم وأجَّروها بمبالغ تساعدهم على العيش، بعد أن فقدوا مصادر رزقهم. بالنسبة لوالدي كان الحل لمعالجة أزمة انقطاع الرواتب هو تحويل جزء من منزلنا إلى مطعم شعبي، وكان الإقبال عليه جيدًا”.
ويضيف: “كان أبي خبازًا ماهرًا، عمل في مطاعم كثيرة منذ بدء الصراع، ورافقته في الكثير منها. وهكذا تعلمت مهارة طهي بعض الأكلات الشعبية مثل الفسحة والسلتة”.
يعمل إسماعيل طاهيًا في المطعم الذي جُهز بإمكانيات متواضعة، كراسٍ وطاولات من خشب البناء، على مساحة لا تتجاوز ستة أمتار في الداخل ومثلها في الباحة الخارجية. وعلى الرغم من بساطة المكان، يُعد واحدًا من أبرز المطاعم الشعبية هناك.
يقول عبد الله العزي -أحد رواد المطعم- “المطعم بسيط واسمه “مطعم الفقراء”، لكنه غني بالمأكولات الشعبية المعبرة عن تراث الطهي اليمني التي تفتقر إليها بقية المطاعم. يشعرني هذا المطعم كأني في منزلي؛ فالخبز يشبه خبز البيت ومذاق الطعام يعيدني إلى القرى والأرياف البعيدة، حيث تراثنا اليمني الأصيل؛ لهذا كلما شعرنا بالملل من الأسماك نأتي إلى هنا”.
في الداخل كان والد إسماعيل، أحمد فتيني، يثني قميصه إلى أعلى الكتف، فيما يده وبواسطة حديد ساخن ترفع أقراص الخبز الكبيرة من على تنور صنع من الطين والفخار الذي يعمل بالفحم.
يقول فتيني: “إن مواجهة توقف الرواتب وارتفاع الأسعار في ظل الانهيار الاقتصادي المريع، فرضت عليه اللجوء إلى تخصيص جزء من منزله وتحويله إلى مطعم. لم يوفر المطعم قوت الأسرة فقط؛ بل وعشر أسر أخرى يعمل أربابها فيه، حيث يشغل المطعم خمسة شُبَّان من الأيادي العاملة”.
ويفسر فتيني نجاح المطعم بما يوفره من مأكولات شعبية، وهو ما يُخالف السائد في منطقة تعتمد أساسًا على المشويات البحرية؛ حيث “يأتي إلى المطعم تجار نزلوا إلى المخا من محافظات أخرى، مثل صنعاء، ويثنون على الأكلات التي نقدمها”.
نزوح ومستوى معيشي متدنٍ
نزحت أم أحمد إلى منزلها الذي في مدينة تعز بعدما وصلت المعارك إلى مدينة الحديدة التي كانت تسكن بها. وتركت منزلها وكل محتوياته وأغلق زوجها محله الذي كان مصدر دخلهم الوحيد، كما فعل مئات الأفراد في المدينة عام 2018.
في مكان النزوح تتغير حياة الناس؛ فلم يعد الأمر كما كان عليه وهم في منازلهم ومناطقهم، فيضطرون إلى تقبل المعيشة التي أجبروا عليها. وما يزيد معاناتهم الوضعُ الذي تمر به البلاد جراء الصراع الذي تنهال ويلاته على حياة المواطنين؛ فقد تدهورَ اقتصاد البلاد، وانقطعت الرواتب، وأعلنت الكثير من المؤسسات إفلاسها وُسرِّح الكثير من الموظفين، وأغلقت المشاريع التي تمثل مصدر دخل لكثير من الأسر، وغيرها من المآسي التي ضاعفت عذابات الإنسان في اليمن، ومن ضمنهم فئة النازحين.
تقول أم أحمد قائلة: “بعض الأحيان نكتفي بوجبتين، فظروفنا المادية تدهورت كثيرا، وقد أصبحنا نكتفي بسد جوعنا ولا نفكر باكتمال الوجبات أو احتواها على الفيتامينات والغذاء المهم، وحياتنا تغيرت كثيرا، ومعها تغيرت موائدنا المختلفة”.
وتضيف: “لم نعد نشتري اللحوم ولا الخضروات التي كنا لا نستغني عنها في وجباتنا. وكنا نفضل الأسماك كثيرا على وجبة الغداء، والدجاج واللحوم والوجبات المختلفة التي تتكون منها. وكذلك الخضروات، مثل الكراث والفجل والبصل والسلطة، هذه كلها لم نعد نأكلها كما كنا في منزلنا قبل النزوح وعندما كان زوجي في عمله”.
الوضع الاقتصادي والمعيشي الذي يعصف بالكثير من الأفراد غير حياتهم؛ حيث اضطرت الكثير من الأسر إلى التوقف عن التمتع بتراث الطهي اليمني الأصيل، الذي يعد طهيًا صحيًا، والاكتفاء بوجبات متواضعة ورديئة، إلى جانب التدهور الذي أصاب المحاصيل الزراعية وتراجع إنتاجها مما أسهم في تدهور الأمن الغذائي في البلاد.
ويعدُّ ناشطون في مجال الطهي أن أزمة الغاز المنزلي التي تشهدها كثير من المناطق اليمنية هي من أهم العوامل التي أجبرت العديد من الأسر على التوقف عن طهي الوجبات الشعبية اليمنية والاعتماد على الوجبات السريعة والجاهزة، خاصة في سنوات الصراع التي تسببت في خلق أزمات كثيرة أسهمت في تراجع معدل الطهي الشعبي في حياة الأسرة اليمنية.
الطهي والاقتصاد الأسري
يحاول رشاد عبد العزيز، وهو أب لخمس فتيات، أن يوفر ما استطاع من المواد الغذائية لإنقاذ أسرته التي تعيش في مديرية الجراحي إحدى مديريات محافظة الحديدة، متجولًا في شوارع وأحياء ومنتزهات المدينة يبيع المكسرات والحنظل. ورغم كبر سنه فإنه يقطع مسافات طويلة مشيًا على الأقدام من أجل توفير ما يسد جوع أسرته.
يقول: “الغلاء، وانعدام فرص العمل وغيرها جعلتنا غير قادرين على توفير كل متطلبات الطهي الشعبي المتوارث لأسرنا، أكثر ما أستطيع أن أوفره لأسرتي هو الخبز والزبادي، أو الجبن والحلاوة الطحينية. عجزنا حتى عن شراء اللحوم واكتفينا بشراء معلبات، ولم تعد مطابخنا كما كانت مشتعلة”.
ويضيف: “تخيل أن زيت الطهي سعة20 لترا يصل سعره إلى عشرين ألف (15$)، والكيلو الدقيق أيضا يصل سعره إلى خمسمائة ريال (1$)، وجميع المواد الغذائية تشهد ارتفاعًا مستمرًا. كيف لنا أن نطهي أكلات التراث اليمني الشعبي، حتى الخضروات في غير موسمها يزيد سعرها كالبطاطا التي يصل سعر الكيلو منها إلى ثمانمائة ريال، وفي بعض المناطق يتجاوز الألفي ريال، وهكذا بقية الخضار التي نعتمد عليها في عملية طهي وتحضير الوجبات”.
كما تقول أم علي، امرأة من سكان الحديدة، إن الوضع الاقتصادي الذي تمر به أسرتها قد أثر على طبيعة موائدهم، وكذلك على كثير من الأسر في الحي الذي تسكن به. وتضيف: “كانت وجبة الغداء في منزلنا تعتمد على وجبات شعبية يمنية أصيلة، فنقوم نحن النساء بتجهيزها مثل “الخبز الملوح”، “صانونة الخضار”، إضافة إلى اللحم ذي المرق. أما الآن فنكتفي بطبق من الملوخية وخبز من الفرن (الروتي)”.
وتتابع: “توقفنا عن تحضير وجبة الخبز الملوح، والسبب ارتفاع سعر الزيت، وأزمة الغاز المتكررة التي تشهدها المدينة بين فترة وأخرى. وحتى المواد المكملة للطبخ مثل معجون الطماطم والثوم والبهارات التي ارتفع سعرها، وجميعها عوامل دعتنا للتوقف عن الطهي”.
من جهته يقول الصحفي والباحث الاقتصادي نبيل الشرعبي أن هناك علاقة بين تراث الطهي اليمني واقتصاد الأسرة وأنه من خلال الطهي يمكن تقييم مستوى اقتصاد الأسر إيجابا أو سلبا، مؤكدا: “كلما كان طبخ الأسرة صحيًا ويناسب طاقة الجسم والعقل والمستوى العمري، باتباع طرق طهي صحية وأدوات ومكان ملائمين، فإن ذلك يعكس حالة إيجابية لاقتصاد الأسرة، والعكس”.
ويضيف: “ولإيضاح العلاقة بين الطهي واقتصاد الأسر، فإن الطهي يجب أن يكون أحد المعايير التي يتم البناء عليها لقياس اقتصاد أي بلد؛ فقدرة الأسرة على توفير مستلزمات الطهي الصحي يعد انعكاسًا للحالة المعيشية للأسرة، وتحديد موقعها في خارطة الأمن الغذائي الذي يبدأ من الفرد مرورا بالأسرة ووصولا إلى البلد ككل”.
وحول تأثير الوضع المعيشي والاقتصادي للأسر على مستوى الطهي في اليمن، يقول الشرعبي: “أثر انقطاع الرواتب سلبا على اقتصاد الأسر، وكذلك على المطبخ اليمني في الغالب، فكثير من الأسر اضطرت لاستبدال مستلزمات ومواد الطهي الصحي بأخرى رديئة وأخرى توقف الطهي في مطابخها”.
من وجه نظر اقتصاديين
من ناحية أخرى يقول رشيد الحداد -صحفي اقتصادي- إن الطهي المنزلي يخفض تكلفة الاتفاق الأسري على الطعام. ومعظم الأسر اليمنية تعتمد على الطهي في المنزل المستوحى من تراث الطهي اليمني بحكم العادات والتقاليد؛ كون الأسر الريفية كانت تعتمد على الإنتاج الزراعي كمصدر للغذاء.
ويؤكد أن الطهي المنزلي يخفض تكاليف وجبات الغذاء الأساسية بنسبة 50% خلافاً لأسعارها في المطاعم أو الأسواق، وهذا يخفف الضغط على اقتصاد الأسرة.
ويضيف في حديثه لـصحيفة «صوت الأمل» أن “معظم الأسر اليمنية أصبحت تعتمد على وجبات رخيصة، مثل الخبز والزبادي وما أمكن تأمينه من مواد غذائية، وهو ما يهدد انقراض تراث الطهي اليمني الأصيل؛ بسبب تراجع معدلات الدخل الأسرى وانعدام الأعمال وارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب تدهور سعر الصرف وخاصة في المحافظات الجنوبية والشرقية”.
ويتابع: “لذلك تسبب الصراع باتساع نطاق الفقر وارتفاع أعداد الأسر المعدمة بشكل كبير ووفقا للتقارير دولية فإن نحو ثمانية ملايين يمني يكافحون من أجل البقاء، أي أصبح تأمين أدنى متطلبات العيش الكريمة لدى معظم الأسر اليمنية تحديًا كبيرًا”.
ويرى أنه “بسبب إقبال الكثير من الأسر على استهلاك وجبات غذائية رخيصة نتيجة تراجع قدراتهم الشرائية على تأمين غذاء صحي وكافي كما كان الوضع قبل الصراع، وتصاعدت أعداد المصابين بسوء التغذية في اليمن إلى مستويات مخيفة جراء نقص الغذاء، مثل الهزال والتقزم ونقص الوزن، جراء نقص الفيتامينات أو المعادن التي مصدرها الغذاء”.
فتراجع دخل الأسر يهدد بشكل واضح استمرار تراث الطهي اليمني والحفاظ عليه وتوارثه جيلا بعد جيل في مطابخ اليمنيين؛ حيث يسهم ارتفاع أسعار المواد الأساسية في اكتفاء المواطن بالوجبات التي يسهل الحصول على مكوناتها، كما نجد إقبالً كبيرًا من الأفراد على شراء الخبز من الأفران بدل من تحضيره في منازلهم.
وحسب طهاة ومهتمين في مجال الطبخ فإن التراجع في معدل انتشار وجبات التراث الشعبي اليمين عند الكثير من الأسر اليمنية قد يؤثر على مستوى الوجبات الشعبية التي تعتمد في تحضيرها على المواد الأساسية خاصة الحبوب بأنواعها والزيوت والسكر، وقد يؤدي ذلك إلى اختفاء الكثير من هذه الأكلات التي تعد موروثا ثقافيا وجب الحفاظ عليها من الاندثار.
43% يعتقدون أن تنوع المطبخ اليمني أسهم بشكل مباشر في تعزيز التماسك المجتمعي اليمني
صوت الأمل – يُمنى أحمد تلعب الأطعمة الشعبية دورًا هامًا في تعزيز الهوية الثقافية للشعوب؛ ف…