مدينة سام.. المدينة التي حَوَتْ كلَّ فنّ
صوت الأمل – حنان حسين
“صنعاء حَوَتْ كلَّ فن”، هكذا تغنى الشعراء والفنانون بصنعاء وتراثها المادي والمعماري الزاخر بالكثير من الزخارف والمواد والخامات المعقدة في التركيب، والمتناسقة في الشكل، فتظهر المباني بهيئة لوحة فنية عريقة.
يعود عُمْر فن العمارة في اليمن إلى العصور القديمة، وتعكس العمارة الصنعانية إبداع الفنان اليمني القديم، الذي بالتأكيد جرَّب العديد من التصاميم العفوية والأشكال الفنية، فأنشأ لأول مرة تصاميم جذبت الكثير من البنّائين إلى تقليديه في بناء البيوت، فأُنشئت مدينة بنفس الطراز والأشكال الهندسية والفنية والمعمارية، بدون وجود قوانين معمارية ذات قواعد تصميمية فنية، بل كانت من بنات أفكارهم.
تعود الكثير من المنازل في صنعاء إلى زمن قديم، بدلالة وجود كتابات بخط المسند منقوشة على الجدران العليا للبيوت، فإمّا أن تعود المنازل إلى التاريخ القديم، وإمّا أنّ حجارة المباني القديمة استخدمت لبناء بيوت جديدة. وتمتاز العمارة في مدينة صنعاء القديمة بطراز عتيق الهيئة والأصالة، فيوجد فيه العديد من الزخارف الغنية بأشكال ونسب مختلفة، وتحوي على العديد من المباني المعمارية الفنية باختلاف أنواعها، كالأسوار والمساجد، وهي من أهم معالم المدينة بمآذنها الشاهقة وقبابها البيضاء الناصعة.
يوجد في مدينة صنعاء العديد من المساجد يقدّر عددها (50 مسجدًا)، وأشهرها الجامع الكبير، وهو من أقدم المساجد الإسلامية، وأول مسجد بُني في اليمن، وكذلك جامع الأبهر، وجامع قبة المهدي، وجامع الزمر وغيرها، وكذلك السماسر (الفنادق قديمًا) التي لها أشكال معمارية مختلفة ومميزة.
كذلك تحتوي مدينة صنعاء على أسواق شعبية، ومعاصر، وحمامات تركية، ومدارس متوزعة، ونوب الحراسة، وغيرها من المباني المعمارية البديعة، لا أحد يعرف متى تم بناء هذا الطراز المعماري، الذي يبدو أنه تأثر بالطراز الحميري العتيق.
النشأة
نشأت صنعاء في عهد مؤسسها الأول سام بن نوح، وكان يطلق عليها قديمًا مدينة سام، وقبلها كانت بمثابة عاصمة مؤقتة لمملكة سبأ في القرن الأول للميلاد، بعد استعادة قبيلة همدان للعرش السبئي من الحميريين.
شيدت مدينة صنعاء في وادٍ جبليّ يصل ارتفاعه إلى 2,200 متر عن سطح البحر، وأصبحت المدينة عامرة بالسكان منذ أكثر من 2500 سنة. “حسب مركز التراث العالمي التابع لليونسكو”.
وجاء ذكر صنعاء في نصوص المسند بصيغة (صنعو)، وهي مشتقة من كلمة مصنعة؛ وتعني حصنًا قديمًا.
حافظت المدينة على هويتها البصرية، وتراثها الثقافي الذي تجلّى في 106 من المساجد، و21 حمامًا، وحوالي 6,500 منزل طيني داخل مدينة دمجت الطبيعة بالبيئة العمرانية. أمّا المساكن البرجية المتعددة الطبقات، ومنازل الآجر القديمة فهي تزيد المشهدَ جمالًا.
الفن المعماري الصنعاني
اعتمد البنّاء اليمني أنماطًا محددة في بناء المنازل في مدينة صنعاء، فكان النمط المعتاد أن يتم البناء على تقارب المنازل وتلاصقها، فتبدو المدينة سلسة واحدة في الحي، وبجوارها مقشامة (بستان زراعي) لجلب الهواء، ولاستفادة السكان من المحاصيل الزراعية، وللنزهة، وكذلك المساجد والأسواق كانت منتشرة في كل الأحياء.
فالمنزل الصنعاني عبارة عن بناء مكون من أربعة إلى ستة أدوار، إذ إنّ الدور الأول يسوّره فناء دائري من الياجور واللَّبِن حول المنزل، ويسمى (الحزام)؛ أي الحوش، ومكان مخصص للماشية والأغنام والدواجن، وغرفة خاصة تسمى (الحر) تخصص لوضع حطب الطهي، وأخرى إلى جوارها يستخدمها البعض لتخزين الحبوب، مثل: القمح والذرة والشعير وغيرها، وفيه الكثير من فتحات التهوية.
الدور الثاني يكون مخصصًا لغرف النوم، بالإضافة لغرف الاستقبال (الديوان كما تسمى باللهجة الدارجة) وهي التي يجلس فيها الضيوف، كما يوجد في تلك الدواوين عدة فتحات داخلة، تستخدم كدواليب لحفظ الكتب القيمة أو الأشياء الثمينة؛ كالذهب والأوراق الوثائقية والنقود وغيرها من الأشياء المهمة، ويتم غلقها بإحكام بواسطة أبواب من الخشب والزجاج، كقطع فنية تخفي الكثير من الأسرار، وتسمى تلك الدواليب بـ(المغفرة).
الدور الثالث عندما ننتقل إليه نجد أنه عبارة عن عدّة غرف إلى جانب بعضها، للمقايل أو للأطفال، أو غرف للاستراحة والسهر وقضاء الوقت مع العائلة ومشاهدة التلفاز، وكذلك نجد هذا الدور يحتوي على المطبخ، كما تسمى باللهجة الدارجة (الديمة)، وهي تكون بعيدة كليًّا عن غرفة النوم، كي لا تنتقل رائحة الطباخة إليها، في المطبخ يوجد الكثير من التفاصيل الصنعانية، مثل (التنانير) المخصصة لعمل الخبز، بالإضافة إلى (الساحل) الجزء الخاص بغسل أواني المطبخ، والديمة عادة تكون في الدور الأخير.
أمّا إذا كان المبنى مكوّنًا من أكثر من ثلاثة أو أربعة أدوار، فيرى الزائر أنّ الدور الأخير عبارة عن ديوان مستقل يسمى (المفرج)، ومساحته لا تقل عن ربع حجم المبنى، ويطل على الحي بأكمله، وهو الديوان الرسمي للبيت بأكمله؛ إذ يفتح أمام الزوّار خاصة المقايل والمناسبات في العائلة أو مع الأصدقاء.
مساحات جمالية مهمّة
تشتهر المباني الصنعانية، ببعض الإضافات المعمارية البديعة أمثال: الشواقيص: وهي الفتحة الطويلة التي يتم عملها من الجبس المخرم في جدران الغرفة، ويرتكز عملها على إدخال الهواء صيفًا، وتغيير النسيم عند فتحها في الغرف؛ أي إنّها تصبح كالمكيف حاليًا، وفي الشتاء تغلق بباب زجاجي ذي منظر خلاب، ويقال إنّها كانت قديمًا تستخدم لرمي الرماح والنبال قديمًا.
القمريات: وهي توجد أعلى النوافذ بشكل معماري مدهش، وهي عبارة عن قطع زجاجية ملونة من المرمر، بشكل دائري أو نصف دائري شفاف، مصنوعة بحرفية وتشكيلة مدهشة على مادة الجص، والهدف من عملها هو لإدخال الضَّوْء الطبيعي إلى داخِلِ الغُرَفِ وإضفاء مسحةٍ جماليةٍ على المبنَى مِنَ الداخِلِ والخارِج، لكن نرى أنّ الأسلوب المعماري الحديث بدأ بفرض سيطرته وبدأت تختفي شيئًا فشيئًا.
العقد: وهو العنصر المعماري الذي يوجد لحمل السقف، وتخفيف الضغط على الجدار؛ إذ إنّ نقطة الارتكاز تقع على قاعدته الحجرية، ويأتي على نحو متعدد من الأنواع والأشكال.
الصفيف: وهي تصنع من الجص على هيئة رفوف بارز في المجالس والدواوين والغرف؛ بهدف وضع التحف عليها لتضيف قيمة جمالية على المجالس.
المشربيات: تثبت على الجهة الخارجية من المبنى في الأدوار العليا من العمارة، وقد تكون خشبية أو من الحجر أو الياجور، وهي التي تضيف مسحة جمالية على البيت الصنعاني؛ لكونها تستخدم لأكثر من غرض، منها: للتبريد، كونها توضع في الاتجاه القبلي (الشمالي) وهي الجهة التي تتميز بالبرودة، لذلك يتم وضع المشروبات أو المأكولات في أوانٍ فخارية، فيتم التبريد فيها بشكل سريع، كذلك تبنى المشربيات بشكل يمنع الرؤية من الخارج من قبل المارّة؛ لكنها تسمح لمن في الدخل بالرؤية، لذلك تستطيع النساء استخدامها للنداء، كذلك تساعد في تجديد الهواء وإدخال الضوء إلى الداخل.
الكنة: وهي عبارة عن رفف توضح أعلى ما بين النافذة والقمرية من الخارج بشكل بارز، إذ تمنع أشعة الشمس من الدخول، وكذلك تستخدم كحاجز من زخات المطر، تصنع من الخشب بأشكال زخرفية رائعة.
المدق: وهو الجزء المخصص في الأبواب الخارجية للطرق عند قدوم زائر، كعمل الجرس تمامًا، فنجد أن هناك نوعين من المدق؛ واحد للنساء؛ وهو يعلق في أحد جانبي الباب، ويعدُّ أصغر من الآخر المخصص للرجال، فعندما يُطرق يستطيع ربُّ البيت التفريق بين الصوتين؛ فإن كان الكبير فهو رجل، وإن كان الصغير فهي امرأة.
لفن العمارة الصنعاني أسلوب فريد من نوعه، تمّ عمله وفق تكنيكيات معينة تداولتها الأجيال حتى وصلت إلينا. فقد تميزت بعددٍ من المعالم الاستثنائية، التي تجمع بين جمال هيئتها وأهمية وجودها.
مواد البناء
فنّ العمارة الصنعانية جاء نتاجًا لتراكمات آلاف السنين من البناء والحضارة والإبداع. فنرى أنّ العمارة الصنعانية امتلكت ميزة استخدام مواد عينية مثل الطين (اللَّبِن)، والطوب المحروق الأحمر (الياجور) بنوعيه الأحمر أو الأسود (المحروق)، بالإضافة إلى الجص والخشب والرخام والجحر.
وهناك مجموعة من الأحجار بمختلف أنواعها استخدمت في العمارة الصنعانية القديمة، مثل: البازلت والبلق والرخام والأحجار الجيرية، سواء في الأعمدة أو الجدران.
وهنا مجموعة من المواد المستخدمة في البناء الصنعاني:
القضاض: هي مادة طويلة العمر إذا تم الاهتمام بمتابعتها وصيانتها كل حين، بالإضافة إلى أن تنفيذها مكلف ومتعب، وهي عبارة عن خليط من النورة والنيس والجص حتى يصبح صلبًا، لكي تمنع تسرب المياه من خلالها، اقتصر عملها على المباني المهمة؛ كالمساجد والبرك والسدود وقنوات الري القديمة، كذلك استخدمت قديمًا في تغطية أسقف المباني مع المداميك وتكسية المنشآت المائية لتمنع تسرب المياه.
بالإضافة إلى استخدامه في تغطية الواجهات تغطية كاملة أو تعبئة الفراغات ما بين الأحجار.
وقد استخدم (دهن البقر) كدهان للقضاض بعد تطبيقه، وذلك بهدف منع تسرب الماء، وجعله أكثر مكافحة للظروف المحيطة.
الطين: وهو من المواد المهمة التي استخدمت في العمارة اليمنية لسهولة عمله وتشكيله، وله استخدامات عديدة ومنها: لبِنًا أو طوبًا طينيًّا لذلك يشكل على هيئة وحدات بناء، فيخلط ويجفف في أشعة الشمس، والطوب الآجر ينشأ عندما يتم حرقه بأفران خاصة به.
وهناك طريقة أخرى، وهي الزابور تنتج عندما يتم خلط الطين بالتبن، ويترك مع الماء ليتخمر لمدة يومين، ويستخدم بعد ذلك في بناء الحوائط على شكل حزام يشكل تعرجًا عند الأركان. أو (الملاجة) وهي تستخدم كمادة رابطة في البناء، فتستخدم في تغطية الأسقف الخشبية في الغرف والعناصر الخشبية في الجدران.
الخشب: يستخدم كمادة إنشائية أساسية للأسقف والقوائم والدعامات. إذ استخدمت الأخشاب كعوارض للحجرات. وفي قصر شقر لوحظ استخدام الخشب كركائز في حمل السقوف في أدوار القصر؛ كالأبواب والنوافذ والسقوف، حسبما أفادت بعثات التنقيب.
مجموعة من المعادن الطبيعية: هنا مجموعة من المعادن تمَّ استخدامها قديمًا في العمارة الصنعانية، مثل البرونز والحديد والرصاص والفضة وغيرها، فقد تمَّ استخدم مادة الرصاص كمادة رابطة بين أحجار مداميك القصور القديمة وسدود المياه. استخدمت مادة البرونز في الأبواب والمداخل، يقال إنّه تمَّ العثور على باب من مادة برونز، عليه نقش مسند، ويقال إنّه حاليًا في الجامع الكبير بصنعاء، ربما يعد أحد أبواب قصر غمدان أو ملحقاته.
صنعاء والمعالجات المعمارية
المواد التي استخدمت في العمارة الصنعانية كانت بطبيعتها تساعد في جعل المدينة تعمل على مقاومة العديد من العوامل الطبيعية؛ كالتفتت والتحلل والانجراف بفعل الأمطار، وكذلك أشعة الشمس الساطعة، كما عمل الجص والقضاض في أسطح المنازل على السماح بخروج مياه الأمطار بسهولة من المزاريب بدون أيّ أضرار، كما ساعدت بعض المواد البنائية على تدفئة المنازل عن طريق تخزين الحرارة نهارًا، وفقدانها ببطء ليلًا، وهكذا تصبح البيوت دافئة معتدلة دائمًا.
إعجاز هندسي
المعماري اليمني عتيق العميسي يوضح لـ (صوت الأمل) أنّ العمارة الصنعانية أتت وفقًا للموقع الجغرافي؛ إذ إنّ الكثير من البيوت في مدينة صنعاء كانت تضع الجهة الجنوبية (العدنية) لغرف النوم والمجالس؛ لأنّها أكثر عرضة للشمس، وهذا ما يجعلها دافئة شتاء وباردة صيفًا، في حين الجهة الشمالية (القبلية) تخصص للمطابخ والحمامات؛ لأنها تكون معتدلة.
وتفيد دراسة علمية نشرت في مجلة جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء، في الشهر السابع من العام 2010 م، أن طريقة بناء صنعاء القديمة صنعت معالجات معمارية وتخطيطية جعلت مدينة صنعاء تبدو مثل كائن حي، يأخذ من بيئته ويعطيها دون أي أضرار.
بحسب الدراسة التي أعدها كل من الدكتور عبد المطلب علي (أستاذ العمارة والتحكم البيئي بجامعة أسيوط)، والباحثة سميرة الشاوش (المدرس المساعد بكلية الهندسة بجامعة صنعاء)؛ أنّ قدامى المعماريين اليمنيين اعتمدوا على أسس ومبادئ بيئية وظيفية، وتقنيات محددة، تراعي البيئة بشكل مستدام ومدهش في تشكيل مدينة صنعاء القديمة وبنائها، أهمها التوجه المعماري للانفتاح إلى الخارج بدلًا عن الداخل.
جاء في الدراسة ما ورد نصّه: “بنيت بيوت صنعاء بحيث تؤمّن المتانة والثبات للمباني، إذ تكمن السمة الوحيدة في تصميم المنازل بكونها صُممت تباعًا لحركة الشمس والهواء، وللحصول على إضاءة جيدة وتهوية طبيعية”.
وورد في الدراسة بأنه: “شيّدت منازل صنعاء القديمة قبل قرون، وفق أسس علمية في التصميم البيئي، بحيث تقاوم تأثيرات المناخ والعزل الحراري وعوامل التعرية”.
وبحسب الدراسة، فقد اعتمد المعماريون اليمنيون عند بناء منازل صنعاء على أسلوب البناء العمودي بارتفاع من 4-6 طوابق مدمجة بالشكل المكعب.
ونرى كذلك أن النمط العمراني في صنعاء القديمة تحديدًا، جعل البيوت تبدو كبنيان مرصوص، كسلسلة متلاصقة مترابطة من المنازل، كل منزل مطابق للآخر بشكل مدهش، وهذا ما ساعد سكانها من الحصول على الجو المعتدل خلال فصول السنة.
كما يذكر أنّه تمَّ بناء الشوارع بشكل ملتف وغير مستقيم، حتى يستظل المارُّ من أشعة الشمس في الظهيرة بظل البيوت والمباني، وكذلك كي تتيح لسكان الحي من الحصول على رياح منعشة وهادئة، وللحد من الرياح الباردة من العبور بسهولة والحد من سرعتها.
82% يرون أن انتشار طابع العمارة الحديث من أكبر المشكلات التي تواجه الحفاظ على الطابع التقليدي للعمارة اليمنية
صوت الأمل – يُمنى احمد عرفت اليمن منذ زمن بعيد بجمال عمارتها وتفرد مبانيها بطابع خاص ومميز…