الفن المعماري في اليمن.. قيمة جمالية وتناغم مع البيئة المحيطة
صوت الأمل – أفراح بورجي
يمثل الفن المعماري اليمني واحدًا من أهم الموروثات الثقافية والتاريخية في بلادنا؛ فهو يعكس عمق الحضارات التي نشأت في هذا البلد، ويوضح العلاقة بين الإنسان اليمني وظروف بيئته التي تشكلت معها خصائص المعمار اليمني من منطقة لأخرى. وقبل أن نستقرئ خصائص الفن المعماري في اليمن، لا بد أن نقف مع التاريخ، لنتنسمَ منه عبق تلك الحضارات التي دُعيت ذات يوم بـ”العربية السعيدة”.
في هذا الصدد يقول المؤرخ اليمني محمد حزام: “تعد اليمن واحدة من أقدم الحضارات التاريخية، بإجماع المؤرخين، إن لم تكن أقدمها جميعًا؛ فقد عُرفت من خلال مظاهر التقدم والرقي، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، التي تظهر في القوانين والتشريعات التي سنتها الدول اليمنية المتعاقبة على امتداد تاريخها الطويل، الأمر الذي ظهرت معالمه على سبل الحياة وازدهار العمران فيها؛ فمن يقف على تفاصيل عرش بلقيس أو معبد أوام أو قصر غمدان، سيجد نفسه حائرًا مندهشًا أمام تلك الإبداعات التي تكشف المرتبة التي وصل إليها العلم والفن في ذلك الزمان، سواء من حيث هندستها وتخطيطها أو من حيث هياكلها وأشكالها”.
ما قبل التاريخ
“إن من يقرأ الطابع المعماري للحضارات اليمنية يجب أن يكون على ارتباط وثيق بأهم ما خلفته تلك الحقب التاريخية من معالم وبنيان؛ لأن ذلك الكم الكبير من المعالم والآثار مما وصلت إليه بعض عدسات الآثاريين والمؤرخين -من عرب ومستشرقين- ليس سوى جزء يسير مما تركته حضارات اليمن القديم. وأكاد أجزم أن المطمور منها أكثر بكثير مما هو موجود الآن؛ لأن اليمن مرت بصعوبات تاريخية متتالية حالت دون معرفة أسرارها وكنوزها التي تمتلئ بها”، هذا ما صرح به حزام ويضيف: “لا أقول ذلك تعصبًا ليمنيتي، فهناك الكثير من الشواهد التي تؤكد هذا القول وتقويه، ومن يتأمل نصوص التوراة ونصوص القرآن الكريم التي أشارت إلى اليمن، تلميحًا وتصريحًا، يجد أننا أمام واحدة من أعظم وأرقى الحضارات التاريخية”.
وأردفَ: “يعد تطور الفن المعماري في اليمن سجلاً تاريخيًا هامًا للحضارات اليمنية القديمة؛ السبئية والمعينية والحميرية، التي كانت على اتصال بالحضارات الأخرى؛ فقد نتج عن هذا الاتصال الحضاري تبادل المعارف والخبرات في مختلف المجالات؛ لهذا نتجت أنماط مختلفة للعمارة تبعًا للعوامل الدينية والسياسية والاقتصادية. والأهم من ذلك البيئةُ التي كان لها أثر كبير على نمط العمارة اليمنية وتميزها؛ فنجد أن الحضارة اليمنية -في الحقبة المعينية تحديدًا- قد أثرت على حضارات الفراعنة في مجال بناء السدود لحفظ المياه؛ لرفع مستوى حياة الإنسان وتأمين رفاهيته ومصادر معيشته، باستصلاح أراضيه وتنظيم حياته الاجتماعية. وإذا كان الرومان قد تأثروا بالإغريق في الفن المعماري، فقد أخذوا من الحضارة اليمنية الابتكارات التي ساعدت على حفظ المياه وتخزينها وأساليب نقلها بالتُرَع (القنوات) واستخدامها للري”.
الشعور الديني، والعمارة اليمنية قديمًا
من جهته قال الأستاذ الدكتور محمد العلفي في كتابه «خصائص العمارة اليمنية»: “تتمثل خصائص الفن المعماري اليمني قديمًا في أنه مستوحى من الشعور الديني المهيمن على مجالات الحياة العامة والخاصة؛ فقد كانوا يلتمسون الآلهة نيلًا للحظوة والإكرام والعون والعافية، وأملاً في الخصوبة والنمو والشفاء، واستسقاءً للأمطار، ورجاءً أن يحصلوا على الغلال الوافرة وصلاح الإنسان والحيوان”.
وأضاف العلفي: “تتمثل فكرة التكوين المعماري في اليمن القديم وارتباطه بالطقوس الدينية في أن الأشكال المعمارية المتعددة ظهرت في أشكال بيضاوية ومستطيلة ومربعة تتفق من حيث الشكل مع المعابد المصرية، وإن اختلفت في التوزيع، ويظهر المدخل بارزًا على كتلة المعبد. وقد كانت الأحجار هي المادة الأساسية للبناء، بمقاسات ذات حجم كبير تتفق مع حجم الأحجار المستخرجة في العمارة اليونانية من حيث الأسلوب والشكل وطريقة البناء”.
تناغم مع البيئة والظروف السياسية
يقول الباحث والصحفي نبيل غانم: “إن المتأمل لما هو بين أيدينا من المدن اليمنية القديمة، يجد أن خصائصها المعمارية جاءت متناغمة مع الظروف البيئية والتضاريس لتلك المدن، التي أثرت بشكل كبير في خصائص العمارة فيها، فمثلا تختلف تلك الخصائص في صنعاء القديمة عنها في مدينة شبام حضرموت، وعنها في مدينة ثُلا التاريخية”.
وأوضح غانم قائلاً: “تتميز العمارة في مدينة صنعاء التاريخية بأنها تبدأ باستخدام الحجر في الطوابق السفلية، لا سيما حجر البازلت الأسود المقاوم للرطوبة والملوحة ذي الصلابة العالية، ثم تتجه شيئًا فشيئًا لاستخدام الطوب المحروق (الآجُر) كلما ارتفعت الطوابق. جاءت هذه الخصائص متناغمة مع تضاريس صنعاء، في حين أنّ مدينة (شبام حضرموت) قد اتسمت بالعمارة الطينية التي تميزت بهندستها العجيبة التي جعلت منها أقدم ناطحات سحاب في العالم. وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة ثُلا التاريخية المبنيةِ منازلها من الأحجار مهما بلغ علو طوابقها التي قد يصل معظمها إلى عشرة طوابق”.
وأضاف غانم: “السمة الوحيدة التي تجتمع في هذه المدن أنهن محاطاتٌ بأسوار حامية. على الرغم من اختلاف المواد المستخدمة لبناء هذه الأسوار فإنها تؤدي مهمة واحدة، هي حماية هذه المدن من الهجمات الخارجية؛ فقد مرت هذه المدن بالكثير من النزاعات، بدءًا من عهد الدول اليمنية القديمة الحميرية والسبئية والمعينية ومرورا بعهد الدويلات ثم الدولة العثمانية… إلخ”.
صنعاء المتفردة
يواصل غانم حديثه: “تتفرد مدينة صنعاء القديمة -عن غيرها من المدن اليمنية والعربية القديمة- بأن واجهات كل منزل تختلف عن الآخر وإن كانا متلاصقين، بالإضافة إلى وجود نظام تزيين حيطان المنزل بالجص (الجبس) في الأجزاء البارزة منه، وإطارات الأبواب والنوافذ وعند الحدود بين الطوابق، فضلاً عن أن منازلها متلاصقة ومترابطة في نمط عمراني فريد والشبكة المتعرجة والضيقة من الطرقات يضفيان عليها سمة التآلف والترابط. هذه الخصائص لم تكن محض صدفة، بل جاءت معبرة عن النظام الاجتماعي والأسري المترابط لأبنائها، ومتناغمة مع العوامل الأمنية والمناخية والاقتصادية”.
وهذا ما تؤكده دراسة تحليلية حول أسس التصميم المعماري والتخطيط الحضري لمدينة صنعاء القديمة، التي نفذتها منظمة العواصم والمدن الإسلامية في العام 2005، جاء فيها أن لــمدينة صنعاء القديمة قيمة معمارية جمالية عالية، جسدتها علاقة التكوين وفق منظومة تبادلية في أسس تشكيل فضاءاتها المعمارية تخطيطًا وتشكيلًا؛ فقد قامت العملية البنائية على أسس دقيقة، وهي نتاج تراكم معرفي وحضاري، فقد اعتاد المعمار اليمني في تحقيق جمالية التكوين لعمارته على مبدأ رئيس هو أن الشكل نتاجُ الوظيفة المعمارية والإنشائية والبيئية، وأن التميز والتفرد جاء نتاج التجربة (الموروث) ومحددًا للهوية الثقافية لهذه المدينة.
المناخ والفن المعماري الصنعاني
أوضحت الدراسة أعلاه أن مناخ مدينة صنعاء القاري يعد من أكبر العوامل التي أسهمت في تكوين اتجاهات عمرانية مميزة لمنازلها، وفقًا لاتجاهات الرياح ومسارات الشمس خلال العام. فضلا عن عوامل مناخية أخرى؛ فتلاصق المباني وترابطها يقلل من تعرض أسطح المنازل لأشعة الشمس، وتظلل المباني بعضها بعضا وما بجوارها من مباني وأسواق”.
وبينت الدراسة أيضًا أن النمط المعماري لصنعاء القديمة جاء لمواجهة الظروف المناخية؛ فقد أولى سكان المدينة اهتمامًا كبيرًا لهذا الجانب؛ إذ يأخذ البيت الصنعاني شكل البرج، والمبنى التقليدي شكل المربع أو شبه المستطيل، وهذا يحقق أدنى مصب حراري في الصيف وأدنى فقدان حراري في الشتاء. كما أن الجهة الجنوبية تعد أفضل لبناء الغرف الرئيسة في البيت؛ لاستقبال أشعة الشمس شتاءً، والحد من تعرضها لأشعة الشمس صيفًا، أمّا الجانب الشمالي فهو بارد جدًا في الشتاء، ولذا خصصه المعماري القديم لبناء المخازن والمطابخ والحمامات.
شبام.. مانهاتن الصحراء
تعد مدينة شبام حضرموت واحدة من أبرز شواهد الفن المعماري في اليمن، بل تعد أعجوبة من عجائب هذا الفن في العالم بأسره؛ لتفردها العجيب الذي جعلها محطَّ إعجاب كل من زارها، وتراءَت أمام ناظريه أول ناطحات سحاب في العالم.
وسميت مدينة شبام نسبة إلى ملكها شبام بن الحارث بن حضرموت بن سبأ الأصغر، وأطلق عليها الغرب اسم “مانهاتن الصحراء”، وسماها اليمنيون “أم القصور العوالي”.
الباحثة سلمى سمر الدملوجي، في كتابها «وادي حضرموت: هندسة العمارة الطينية، مدينتا شبام وتريم»، تقول: “لم يُحدد تاريخ تشييد مدينة شبام الأول، غير أن بعض المعلومات تذكر معاصرتها لشبوة عاصمة حضرموت، وذلك في القرن قبل الميلاد، ولسبأ وحمير 115 [عامًا] قبل الميلاد”.
وأشارت الدملوجي إلى أن شبام الحديثة قد بنيت فوق أنقاض مدينة شبام القديمة، مما يجعلها تبدو كأنها بنيت على هضبة صغيرة أو على منصة بأسلوب أقرب إلى المدن البابلية والسومرية، وأنها محاطة بسور من طوب الطين يتراوح ارتفاعه من خمسة إلى تسعة أمتار.
وأضافت: “لعبت مدينة شبام دورًا مهما بحكم أنها عاصمة وادي حضرموت منذ القرن الرابع الميلادي -بعد أن أحرق الحِمْيَرِيُون العاصمة القديمة (شبوة)- إلى عام 1520م”. وأوضحت أن شبام بشكلها الباقي حتى الآن قد بنيت في العقد الثاني من القرن التاسع الهجري، وهي تضم مجموعة من المباني والمنازل يصل عددها إلى 500 مبنى يتراوح ارتفاعها ما بين 25 إلى 30 مترًا، ويتكون كل مبنى من حوالي ستة طوابق، وتلتف هذه المباني بشكل رباعي مترابط حول مسجد المدينة الذي يقع في الوسط منها.
وذكرت الدملوجي أن بيوت المدينة صممت على نحو يراعي متطلبات الدفاع؛ إذ كان عليها أن تؤدي دور القلاع الدفاعية العالية المتراصة السريعة الإغلاق والعزل، ولم يكن للأدوار الأرضية من معبر على الشارع سوى مدخل البيت، وهذه الأدوار تستخدم مخازنًا للحبوب والحنطة والتمور، وجدرانها خالية من أي نوافذ، وليس فيها إلا فتحات صغيرة وقليلة قريبة من السقف للتهوية.
تتسم العمارة في مدينة شبام حضرموت بأنها متلاصقة ومترابطة ببعضها بعضا، وبينها ممرات في الطوابق العلوية للمباني، وهذا في الأصل يعكس الترابط الأسري والاجتماعي لأبناء مدينة شبام.
وأضافت الدملوجي قائلة: “كانت الممرات التي تصل بين الأدوار العليا للأبنية المتقابلة تقوم بوظيفتين اثنتين: الأولى إتاحة المجال للنساء أن ينتقلن عبرها دون أن يتعرضن للانكشاف على الخارج، والوظيفة الثانية في أوقات الحرب والحصار ليتمكن أبناؤها من أن يتجولوا من مبنى لآخر بحرية. يبلغ متوسط ارتفاع المباني حوالي 29 مترا، ويتراوح سمك جدران الدور الأرضي للمبنى ما بين متر ونصف إلى مترين، يتناقص كلما اتجهنا نحو الأعلى عند الحافة العليا للمنزل”.
وبحسب الباحثة فإن منازل مدينة شبام تتميز بتقسيمها الفريد الذي يلبي احتياجات سكانها؛ فيستخدم الطابق الأرضي مخزنًا للمواد الغذائية كما سبق ذكره، ويستخدم الطابق الأول للسكن، أما الطابقان الثاني والثالث فيستخدمان لاستقبال الضيوف، ويُخصص الطابقان الرابع والخامس للنساء.
تتلخص خصائص الفن المعماري اليمني في أنها تأتي متلائمة مع مجموعة من العوامل الاجتماعية أو السياسية أو المناخية أو البيئية، وبنمط متقارب جدًا لاستخدام طوابق المنازل وترابطها وتلاصقها، بالإضافة إلى تجسيدها لأنظمة الحماية الأمنية. ومهما اختلفت مواد البناء المستخدمة من مدينة لأخرى، ومهما اختلفت الأشكال والتفاصيل الجمالية في الأبنية، فإنها تتحدد في هويتها واستخداماتها وأساليب عمرانها.
82% يرون أن انتشار طابع العمارة الحديث من أكبر المشكلات التي تواجه الحفاظ على الطابع التقليدي للعمارة اليمنية
صوت الأمل – يُمنى احمد عرفت اليمن منذ زمن بعيد بجمال عمارتها وتفرد مبانيها بطابع خاص ومميز…