تنوع تراث الطهي.. عامل اقتصادي مهمّ وتراث حضاري ينبغي الحفاظ عليه
صوت الأمل – (حنان حسين – أحمد باجعيم)
يتميز التراث الحضاري العريق للمطبخ اليمني بالتنوع الكبير في الأطعمة والوجبات، ممّا جعله من أهم المطابخ العربية وأغناها وأكثرها ثراءً، وتختلف الأطباق والأصناف اليمنية من محافظة إلى محافظة أخرى، وأصبحت الأطعمة اليمنية منتشرة في معظم الدول العربية خاصة ودول العالم عامة، وتتميز الأطباق الشعبية اليمنية بنكهة ورائحة تمنحها مكانة بارزة في قوائم الأطعمة العالمية.
المطبخ الحضرمي
تتميز حضرموت بعدة أطباق مستوحاة من تراث الطهي اليمني القديم، منها وجبة (اللُّخم)، التي تحتوي بشكل أساسي على سمك القرش المجفف والتوابل، بالإضافة إلى الأرز المحمر. ويعدّ اللخم من الواجبات الرئيسية في معظم المنازل بحضرموت.
وجبة المندي من أشهر الأطباق اليمنية عامة، وبشكل خاص في محافظتي حضرموت وشبوة، وإحدى أهم موروثات تراث الطهي المتوارث عبر الأجيال، ويُعدّ طبقًا رئيسيًّا يُقدَّم لكبار الضيوف، وتتكون وجبة (المندي) من لحم الماعز أو الإبل، ويحضر المندي من اللحم والأرز البسمتي ذي الحبة الطويلة، بالإضافة إلى توابل خاصة بالمندي، ثم يزيّن بشرائح البصل المقلي والمكسرات، مثل اللوز والفول السوداني والزبيب.
وتحدث مالك مطعم باحجري بالمكلا عمر باحجري عن طريقة تجهيز المندي إذ قال: “إشعال حطب داخل التنور، وعند تحوله إلى جمر يوضع اللحم داخل التنور فوق الجمر” طبعًا بوجود سلة معدنية أو لف الطعام بورق قصدير، ومِن ثَم إغلاق التنور بغطائه؛ لمنع دخول الهواء وبقاء الحرارة الشديدة، فينضج الطعام عن طريق الحرارة العالية”.
وقال باحجري: “إنّ وجبة المندي أو غيرها من الوجبات ذات الموروث الحضاري اليمني حظيت باهتمام عربي لإعداد الوجبة ونقلها إلى الخارج؛ لتعكس لذة الأطباق اليمنية الشعبية لمحيطه الإقليمي، وهو ما أسهم في ربط النسيج الاجتماعي العربي بعضه البعض”.
ومن جانبه أوضح محمد بارشيد مالك مطعم للقعدان، (ويقصد بالقعدان في اللهجة المحلية صغير الإبل) الواقع بمدينة المكلا، عن وجبة مضغوط اللحم التي تقدم في المناسبات والأعراس، حيث إنّ الوجبة تتكون من لحم القعود (حاشي)، الذي يكون سنّه أقل من السَّنة، ويستخدم لعدة طبخات، منها الكبسة والمكموت.
المطبخ الصنعاني
يتميز المطبخ الصنعاني بأكلاته المنفردة شكلًّا ومذاقًا ولذةً، فهناك العديد من الأطباق نشأت وتأسست في المطبخ الصنعاني، مثل: المطيط، فتة الحليب والسمن، السبايا، فتة السمن والعسل (الملتوت)، الكباب بأنواعه. وكذلك توجد أكلات انتقلت من المطبخ التركي إلى المطبخ الصنعاني اليمني زمن حكم العثمانيين لليمن في مرحلتين، الأولى (1538- 1635 م)، والثانية (1635- 1918م)، وذلك له الأثر الكبير على حياة اليمنيين في صنعاء تحديدًا، فكان التأثير على المطبخ الصنعاني كبيرًا جدًّا يصل امتداده إلى الجانب التراثي.
فالمطبخ التركي ترك تأثيره على المطبخ الصنعاني عن طريق مجموعة من الأكلات، منها وجبة السوسي، فهي حاليًا تعدُّ أكلة صنعانية بامتياز، لكنها ذات أصول تركية، وهي عبارة عن عدة أرغفة من خبز التنور اليمني، وبعدها يتم تسخين كمية من الحليب في قِدْر، وهو ما يسمى بالمُقلى الصّعدي (مصنوع من الحجر)، وبعدها تتم إضافة البيض والملح، ووضع بين كلّ رغيف وآخر خليط من البيض والحليب. ومن الوجبات التركية أيضًا وجبة (المحشي)، التي تعدُّ من الأكلات التركية التي تسميتها في تركيا بنفس اللفظ، وهي تعدّ من الوجبات المفضلة في صنعاء بشكل كبير، وهي عبارة عن حشو الكوسا والباذنجان والبطاطا والطماطم بكمية من الأرز المخلوطة باللحم المفروم (الدقة) والقليل من الكمون والبهارات المميزة.
وهناك أيضًا السلتة والفحسة، وهي إحدى أهم موروثات تراث الطهي اليمني الأصيل، وتعدُّ وجبة شعبية شهيرة جدًّا في اليمن كاملة، والكل يُجمع على أنّها وجبة صنعانية، لكنها كذلك تأثرت بالمطبخ التركي؛ إذ عمل الأتراك على إضافة كميات من اللحم المفروم (الدقة)، وبعض الإضافات الأخرى لتصبح أكلة تركية. لكن الطهاة اليمنيين أعادوا السلتة والفحسة إلى أصلها اليمني من خلال إضافة سحاوق نبتة (الكراث)، وبعض من البهارات الصنعانية المميزة، بالإضافة إلى الحلبة البيضاء التي ظهرت من اليمن.
العصيدة وهي أكلة شعبية، تشترك محافظة صنعاء مع العديد من المحافظات خاصة الواقعة في المناطق الشمالية والغربية بعملها، ويتم تحضيرها عن طريقة خلط الدقيق بالماء على النار لتكوين عصيدة بعجينة لينة متماسكة ورطبة، وتختلف الخلطة التي توضع بالوسط باختلاف المحافظة والرغبة في الطعم؛ فمنهم من يضع العسل والسمن البلدي كمحافظة صنعاء، ومنهم من يضع المرق الحامض، ومنهم من يضع الحقين المفلفل أو الوزف (السمك الصغير) كمحافظة تعز، وهكذا.. لكنها تعدّ من أبرز موروثات تراث الطهي اليمني.
وهناك وجبة الكباب بالزيت (اللحم المفروم المقلي بالزيت)، كذلك القَنَم (اللحم المفروم والمشوي على الفحم) تعدُّ أصوله صنعانية، وهذا ما يؤكده الحاج صبحي محمد الفقيه -مالك مطعم شعبي- بأنّ القنم (كباب الفحم) من الأكلات التراثية القديمة، إذ يقول: “لنا مدة طويلة في مجال طباخة وجبة (القنم) أبًا عن جدّ إلى ما يصل لأكثر من 150 عامًا تقريبًا”.
ويرى أحمد زيد –طباخ شعبي- أنّ البرعي كذلك يعدُّ من الأكلات اليمنية الصنعانية؛ ويؤكد قائلًا: “بالنسبة لتاريخها فهي قديمة جدًّا من عهد أجدادنا، قد يعود تاريخها إلى 150 عامًا تقريبًا، فهذه الوجبة موجودة منذ عهد الملكية في اليمن، فهي تعدُّ وجبة الإفطار المشهورة لأهل صنعاء القديمة، كذلك الأمر بالنسبة للسبايا والفول الجرة والفتة بالسمن والعسل”.
إلى ذلك أشار موقع المرسال إلى أنّ طبق الشفوت الصنعاني لا يتم تحضيره في أي بلد عربي غير اليمن، وبالأخص محافظات (صنعاء – إب – تعز- ذمار- المحويت)، وهو طبق شعبي وتقليدي، المكونات الرئيسية لهذا الطبق هي: رغيف رقيق من الخبز، يطلق عليه اسم اللحوح اليمني، يتم وضعه في صحن واسع، ثم يُوضع عليه الحقين.
ولطبق الشفوت مكونات رئيسية أخرى، مثل: الفلفل، والكزبرة، والكمون، والثوم، والبهارات، والتوابل، ثُمّ يُقطّع فوقه الخيار والطماطم، ويتم طحن الكراث فوقها، بعد ذلك تُوضع طبقة أخرى من خبز اللحوح، ثُمّ يُصبّ فوقها باقي المكونات، ويُستمر بنفس الطريقة إلى أن نحصل على صحن يحتوي على 12 طبقة من خبز اللحوح، ويتم تزيين صحن الشفوت ببعض أنواع السلطات، والخس، والخيار، والطماطم، والكزبرة الخضراء، ويتم تقديمه بشكل بارد بجانب الأطباق الرئيسية.
الحلويات
الحلويات التي تنتشر في شهر رمضان تحديدًا، ويُقبل أهل صنعاء على شرائها بشكل مهول، هي الروّاني والشعوبيات والقطائف، وهذه الحلويات تطبخ بخلط الطحين والبيض والسكر، ويخلط ليصبح بعد استوائه على أشكال متنوعة، منها الرواني تصبح بشكل إسفنج، وتضاف إليه الشيرة (القَطْر)، والشعوبيات تصنع بعجينة أسمك حجمًا، وجميها تشترك في أنّها تُسقى بالشيرة.
تعدُّ هذه الحلويات صنعانية، رغم أنها ذات أصول تركية، لكنها بفعل الزمن أصبحت من التراث الثقافي الشعبي الصنعاني، وهذا ما أكدّه الحاج صالح عبد الله، من أهل صنعاء القديمة، الذي قال: “إنّ أمهات الجنود الأتراك عندما كنَّ يرسلْنَ هدايا إلى أبنائهن في اليمن يقمْنَ بإرسال الرواني بدون أيّ إضافات؛ أي يرسلنها ناشفات خالية من الشيرة، ويقومون هم فيما بعد بإضافة الشيرة عليها لتصبح جاهزة للأكل، وهذه الحلوى تقدّم بهذا الشكل حاليًا في تركيا”. ولا ننسى المعصوبة (خليط الخبر الأسمر مع العسل والسمن والتمر والموز والقشطة، وتختلف المكونات حسب الرغبة).
المخبوزات
من المخبوزات الصنعانية المتفردة؛ كالذمول والقفوع (بِلْسِن- شعير)، وهي مخبوزات مشابهة للكعك، تُخبز في التنور، وتؤكل في الجلسات مع الشاي الأحمر أو الكرك (الشاي بالحليب)، وكذلك الملوج الذي يخبز في التنور، ويتم صهر وجهه بالحلبة المنقوعة.
السبايا الأكلة الصنعانية الأصل، تتفرد بنكهتها، فهي تخبز من خلال فرد أكثر من خبزة، ويتم فردهنّ كرقائق بالقليل من السمن أو الزيت حتى تتكون كخبزة واحدة، ويتم خبزهن بالمخبزة في التنور.
ومن المخبوزات الصنعانية الشهيرة بنت الصحن، وتعدُّ من أبرز المخبوزات التي تشتهر بها محافظة صنعاء بالإضافة إلى محافظة إب، وهي عبارة عن رقائق من العجين يتم فردها فوق بعض بشكل رقيق وخبزها وتقديمها مع العسل.
المطبخ التهامي
يتميّز المطبخ التهامي بأطباق لا تشابه غيرها من الأكلات اليمنية، وبحكم قربها من البحر فمعظم الأطباق تحتوي على المأكولات البحرية؛ الأسماك والحبار والجمبري والمحار، وغيرها من لحوم الأسماك والأعشاب البحرية المتنوعة.
أبرز الأطباق هو مقلى السمك بالحُمر، ويُطبخ على الفحم لساعة وربما أكثر في الحرضة، ويحتوي على سمك مضاف إليه حُمر منقوع ومصفى، بالإضافة إلى صلصة الطماطم، كذلك الكدر والكبان والقوار والسقيل، بالإضافة إلى وجبة الحنيذ بالقصدير (لحم يطبخ على النار بداخل القصدير).
وأبرز المأكولات التهامية هي المخلوطة التهامية، ويتم عملها من خلط عجينة الدقيق بخضروات كالكزبرة والطماطم، وقليها في الزيت، وتقديمها دافئة إلى جانب صوص مكون من السحاوق بالجبن، أو السحاوق بالحُمر الأسود الأساسي، وهو غير متوفر حاليًا. كما ذكرت أسماء، إحدى مالكات مشروع الأكابر للمأكولات التهامية في صنعاء، قائلة: “نحن نقدّم في مشروعنا الوجبات التهامية ذات الموروث الحضاري المتوارث بهدف التعريف عن الأكلات التهامية، وتعريف أهل صنعاء والمحافظات الأخرى بها، وكذلك بهدف تحقيق كسب مادي ومصدر دخل ثابت، لكن الصعوبة الحالية التي تواجهنا هي أننا نبحث عن المواد الأساسية التي نستخدمها، لكنها أصبحت غير موجودة بسهولة، كالحُمر الأسود، فنضطر لاستبداله بالحُمر العادي، كي يفي بالغرض”.
وبخصوص الحفاظ على تراث الطهي اليمني من الضياع، تتحدث نجاة (إحدى مالكات مشروع الأكابر) قائلة: “المشروع هو لخمسة بنات تهاميات، وفكرته الأساسية التعريف بالمأكولات التهامية بشكل عام، وإتاحة الفرصة للجميع بتذوقها ومعرفة محتوياتها”.
ويقول يحيى عبد الله (طباخ من محافظة الحديدة، 44 عامًا): “إنّ منطقة تهامة تزخر بالعديد من الوجبات ذات الإرث الحضاري من تراث الطهي اليمني، ومنها اللحم الذي يطبخ في التنانير تحت الأرض، ومنها ما يطبخ في المقلى، وجميعها مأكولات عريقة تُعرّف عن تهامة الأرض والإنسان”.
وعن تنقل المأكولات بين المحافظات، ودور تراث الطهي اليمني في تعزيز التماسك الاجتماعي قال: “تشتهر تهامة في الأعراس بتقديم وجبة الزربيان على الغداء، وكذلك الحلوى الحضرمية، فالوجبتان قد تكونان منتميتين إلى المحافظات المجاورة، كعدن وحضرموت، لكن اتّحاد الوجبات على مائدة واحدة صَنَعَ مزيجًا مذهلًا من المأكولات اليمنية التراثية الرائعة، وعبّر بوضوح عن تمازج المجتمع اليمني وتماسكه من مختلف المناطق”.
التنوع والثراء
يتميز المطبخ اليمني (الحضرمي والصنعاني والعدني والتهامي) بالكثير من الأطباق والأصناف الشعبية والرسمية، ويُقدِّم عددًا من المأكولات في فصلي الشتاء والصيف؛ تُقدّم بعض الأطباق في فصل الشتاء كوجبة العدس، التي يتم طهي الأرز بالعدس حتى يقاوم الجسم البرودة القارسة في المناطقة المرتفعة، وعصيدة المسيبلي (الدخان)، وغيرها من الأطباق الشتوية الأخرى.
أما الأطباق التي تُقدَّم في فصل الصيف فوجبة الصيادية التي يزداد الطلب عليها في هذا الفصل؛ لكثرة إنتاج الأسماك وقربها من الشواطئ، ويكون سعرها مناسبًا ومتاحًا للجميع، وغيرها من الأطباق التي تقدم في الصيف.
التحديات التي تواجه تراث الطهي اليمني
عدَّدَ محمد بارشيد (مالك مطعم وجبات شعبية في حضرموت) أبرز التحديات التي تواجه تراث الطهي اليمني، حيث ذكر أنّ أكثر الطبخات تحتوي على مكونات مكلفة ماديًّا، ومنها اللحوم والأسماك ذات الجودة العالية، وبعض المكونات الأخرى التي تحافظ على الأطعمة، كالأكياس والمواد البلاستيكية، التي تُشترَى بالريال السعودي في بعض المناطق، في ظل الانهيار المستمر للعملة المحلية أمام العملات الأجنبية.
كما أنّ الصراع الدائر في البلاد منذ أكثر من ثماني سنوات ألقى بظلاله على الوضع الاقتصادي وسط ظروف معيشية صعبة أثرت بشكل كبير على النشاط السياحي الداخلي أو الخارجي، ممّا تسبب بضعف الإقبال على أغلبية الأطباق اليمنية، التي أصبحت لا تستطيع اقتنائها معظم الأسر.
الحلول
تتطرق الخبير المالي حارث باعمر في تصريح صحفي لـ”صوت الأمل” إلى الحلول من وجهة نظره التي تساعد تراث الطهي اليمني في الحفاظ على مكانته بين المطابخ العربية، منها القروض البنكية التي تسهم في تعزيز الاستقرار المالي للمطبخ، بالإضافة إلى تشجيع رؤوس الأموال على الاستثمار في هذا المجال.
وقال باعمر: “إنّ الاستثمار في اليمن يجب أن يتجاوز العديد من المشكلات الجوهرية، أهمها عملية التمويل، نظرًا لقلة موارد اليمن بما ينعكس سلبًا على تشجيع بعض المطاعم والأسر المنتجة للأكلات اليمنية الشعبية، مضيفًا أنّ وقف الصراع الدائر في البلاد سيسهم في فتح الكثير من البنوك الربحية التي تساعد على تسليف المشاريع التنموية، كالمطاعم وغيرها من المجالات الأخرى”.
في الآونة الأخيرة ازداد الإقبال الشديد على المأكولات اليمنية في جميع أنحاء العالم، ممّا شجّع كثيرًا من رجال الأعمال على افتتاح الكثير من المطاعم اليمنية في مختلف الدول العربية والأجنبية، لمعرفة مرتاديه وتذوقهم أشهى الأطباق المحلية ومنها الشعبية، وكذا لمعرفتهم بالمأكولات اليمنية التي تتميز بها المحافظات، كلًّا على حدة، مما تعكس الجانب المشرق لليمن.
43% يعتقدون أن تنوع المطبخ اليمني أسهم بشكل مباشر في تعزيز التماسك المجتمعي اليمني
صوت الأمل – يُمنى أحمد تلعب الأطعمة الشعبية دورًا هامًا في تعزيز الهوية الثقافية للشعوب؛ ف…