المعلم في ظل الصراع.. اصرار على البقاء رغم الأزمات
صوت الأمل – سوزان مفتاح
لم تكن ضروب الحياة في اليمن أشد قسوة مما كانت عليه على المعلمين، فبعد حوالي تسع سنوات من النزاع المسلح، يمر اليمن بأسوأ أزمة تعليمية عرفها في التاريخ الحديث، حيث هناك أكثر من مليوني طفل خارج المدرسة والعديد منهم ينشئون في بيئة معزولة حيث يصعب وصول التعليم إليها. كما أن المدارس لم تسلم بدورها خلال الفترة الماضية، فمدرسة واحدة على الأقل من بين كل أربع مدارس تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي أو استخدامها لأغراض غير تعليمية. رغم أنه بموجب القانون الإنساني الدولي، يتعين على أطراف النزاع اتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية. إلا أن هذا لم يؤخذ بعين الاعتبار لدى الأطراف المتنازعة.
بسبب الصراع يُقتل الطلاب والمعلمون أو يُصابون في المدارس أو في تنقلاتهم اليومية، في حين يجبر نقص الأجور الآلاف من المعلمين على البحث عن وظائف أخرى. كما أجبرت المخاطر والآثار الاقتصادية للنزاع آلاف العائلات على التوقف عن إرسال أطفالهم إلى المدارس، وخاصة الفتيات. وتفيد بيانات نقابة المعلمين اليمنيين بمقتل أكثر من 1500 معلم وجرح نحو 2400 آخرين وتشرّد الآلاف وخروجهم من منازلهم في الأعوام الماضية، ما يؤكد دفعهم ثمنًا باهظًا للحرب لا يمكن تعويضه.
نزوح مزدوج
بسبب الصراع المسلح والذي امتد إلى داخل الأحياء السكنية في أغلب المدن اليمنية أٌجبر الكثير على ترك بيوتهم والنجاة بأرواحهم تاركين خلفهم أعمارًا كاملة من الذكريات والمقتنيات والأغراض الخاصة والأوراق المهمة غير آبهين بمدى خساراتهم المادية أمام احتمالية فقد الروح.
بحسب بيان أصدرته نقابة المعلمين فإن أكثر من 25 ألف معلم ومعلمة في اليمن أجبرتهم الحرب على التشرد والنزوح. منهم من اضطر إلى تغيير مكان سكنه في نفس المدينة والكثير اضطروا لترك مدنهم متوجهين إلى مدن أخرى أكثر هدوءًا واستقرارًا، حاملين معهم همومهم ومشاكلهم المادية، مما أدى إلى ازدياد المشاكل الأسرية والنفسية بسبب ضيق الحال.
النزوح لخارج الوطن شهد الكثير من الحالات لمعلمي المدارس ومدرسي الجامعات الباحثين عن الأمان والحياة الكريمة. بسبب الصراع هاجرت الكثير من العقول التعليمية والأكاديمية إلى دول الجوار أو دول أوروبية وخسرت البلد جزءًا مهمًا من رصيدها العلمي المتمثل في عقول أبنائها.
نوع آخر من النزوح وهو ما نسميه نزوح “الوظيفة”. هذا النوع من النزوح ينطبق على من أجبروا على تغيير وظائفهم أو مسارهم المهني لأسباب عديدة منها التمييز أو الاضطهاد أو انقطاع الراتب.
الراتب حياة
تسبب الصراع في توقف الرواتب عن جميع موظفي الدولة في المناطق الشمالية من اليمن والتنصل من دفعها وتأخيرها في المناطق الجنوبية إلى تفاقم حالات الفقر لدى المواطنين ولاسيما شريحة المعلمين، حيث جاء في تقرير حديث للأمم المتحدة بعنوان “عندما يتعرقل التعليم: تأثير النزاع على تعليم الأطفال في اليمن” والذي تم نشره في يوليو 2021، أن عدد المعلمين الذين لم يتسلموا رواتبهم يقدر بنحو 600,171 معلم ومعلمة – أو ثلثي العاملين في مجال التدريس. مما دفعهم إلى التوقف عن التدريس إلى إيجاد سبل أخرى لإعالة أسرهم.
يلعب المعلمون دورًا بغاية الأهمية في تقديم خدمات التعليم والتعلم بشكل مستمر لكل طفل في اليمن. ومن المرجح أن يؤدي المزيد من التأخير في دفع الرواتب إلى الانهيار التام لقطاع التعليم والتأثير على ملايين الأطفال اليمنيين، وخاصة الفئات الأكثر تهميشًا، كما الفتيات، حيث بلغ التحاق هذه الأخيرة بالمدارس قبل الحرب أكثر من 40% وهو ما كان يعتبر تقدمًا جيدًا.
إن ترك هؤلاء الأطفال خارج المدرسة يعرضهم لخطر كبير بسبب لجوئهم إلى خيارات قد تكون سيئة، مثل عمالة الأطفال والتجنيد في الجماعات والقوات المسلحة وزواج القاصرات والاتجار وغير ذلك من أشكال الاستغلال والإساءة.
فلقد ترك الصراع المشتعل منذ عدة سنوات ملايين الأفواه الجائعة، يتصدرهم المعلمون وبقية الموظفين الحكوميين ومن يعولونهم في امتحان حقيقي، من أجل المكافحة للبقاء على قيد الحياة.
الكثير من المعلمين اضطرتهم ظروف العوز الناجمة عن انقطاع صرف الرواتب بسبب الحرب المستعرة إلى “مغادرة” وظيفة المعلم والعمل في مجالات أخرى وأحيانًا قد لا تتناسب مع كونه معلمًا يحظى باحترام المجتمع. فمنهم من عمل في البناء وبيع القات والنجارة والتجارة والكثير أصبحوا بائعين متجولين، وبالنسبة للنساء فهناك من عملن في مجال الخياطة أو المعجنات والبعض ذهبن إلى أكثر من ذلك، أصبحن عاملات في البيوت.
وفي نفس السياق، ورغم المساعدات الشحيحة التي قامت بها بعض المنظمات الدولية من تسليم رواتب أو حوافز متواضعة للمعلمين ولفترة من الزمان وجهود بعض مدراء المدارس من أجل توفير بدل مواصلات أو سلل غذائية للمعلمين، إلا أن هذه المساعدات لم تكن كافية لسد جوع المعلم أو تلبية حاجاته ولاسيما أنها لم تكن ثابته وتم إيقافها بسبب ضعف التمويل. ومن جهة أخرى فقد لجأ الأهالي في بعض القرى إلى إنشاء صناديق مالية تقدم للمعلمين مبالغ رمزية لضمان استمرارية التعليم.
الحق في التعليم يعني الحق في الحصول على معلم مؤهل
وفي السياق ذاته علقت ممثلة «اليونيسيف» في اليمن ميريتشيل ريلاينو بقولها “إن جيلًا كاملًا من الأطفال في اليمن يواجه مستقبلًا غامضًا بسبب محدودية أو عدم إمكانية حصولهم على التعليم”. وتضيف: “حتى أولئك الذين ينتظمون في المدارس لا يحصلون على التعليم الجيد”.
بسبب انقطاع الكثير من المعلمين عن الذهاب للمدارس ولجوئهم إلى أعمال أخرى غير التدريس يكسبون منها قوتهم، بالإضافة إلى إحالة الكثير من المعلمين للتقاعد وغياب التوظيف الجديد، لم تجد الجهات المسؤولة سبيلًا غير إيجاد بدلاء ومتطوعين ليحلو محل المعلمين المنقطعين.
وبالنظر لطبيعة هؤلاء البدلاء، سنجد أن الكثير تم الاستعانة بهم دون مراعاة لأدنى معايير المهنية فالكثير لا يتقن مهنة التدريس والبعض منهم من خريجي الثانوية العامة الذين لا يمتلكون أي خبرة علمية أو أكاديمية أو حياتية بل حتى لا يعرفون كيف يمكن التعامل مع الأطفال، وخاصة الأطفال الذين يعانون من ويلات الصراع والمنهكين نفسيًا، ولم يتم تأهيلهم التأهيل الكافي من دورات وورش عمل وتزويدهم بأقل ما يمكن من الأدوات اللازمة لممارسة مهنة التعليم.
المعلمون في القطاع الخاص
ازدهر “سوق” التعليم الخاص كثيرًا بعد انقطاع رواتب المعلمين في المدارس الحكومية وتوقف الكثير منهم عن العمل فيها، الأمر الذي أدى إلى تدهور مستوى التعليم والتقدم في المناهج الدراسية بصورة طبيعية.
فكما أصبحت المدارس الخاصة بديلًا ووجهة لأولياء الأمور رغم ارتفاع الرسوم الدراسية بطريقة تفوق العقل والمنطق في كثير من المدارس، أصبحت هذه المدارس غاية ووجهة أيضا للكثير من المعلمين.
لكونها مشاريع ربحية فمن الطبيعي أن يكون اهتمام القائمين على أغلب المدارس الخاصة على الطالب دون مراعاة لكرامة المعلم، في ظل غياب الرقابة القانونية التي تحمي حقوقهم وكرامتهم رغم انتهاكهم لبعض قوانين العمل والواجبات الوظيفية التي ينص عليها القانون. فيتعرض المعلمون فيها للكثير من التطاولات من قِبل الطلاب وأولياء أمورهم بالإضافة إلى أن إدارات المدارس تستغل حاجة المعلم للراتب وتسلبه أغلب حقوقه وتجبره على القيام بالعديد من المهام وتحمل الكثير من الحصص التي تفوق النصاب القانوني دون قدرة هذا الأخير على الاعتراض أو التذمر وذلك بسبب الحاجة.
وأخيرًا، ورغم المصاعب الكبيرة فإن العدد الأكبر من المعلمين في اليمن -وخصوصا النساء-لا يزالون يتمسكون بمهنة التعليم، إذ تبقى تلك المهنة بالنسبة لهم مقدسة، ولذا فضّلوا البقاء في وظائفهم في واحدة من صور التضامن المجتمعي.
ومن المهم أن نعي بأن أي عنف ضد الطلاب أو المعلمين أو المدارس أو الجامعات فيه ضرر دائم و يعيق عملية التعافي بعد الصراع. لذلك فإن معالجة عملية التعليم في اليمن تتطلب اتباع نهج شامل متعدد القطاعات يلبي جميع الاحتياجات الأساسية، لأن جميع هذه الاحتياجات مترابطة.
بعض المشاكل التي يعاني منها المعلمون في ظل الصراع
98% يعتقدون أن الظروف السيئة التي يعيشها المعلمون الآن ستؤثر بشكل سلبي على السلوكيات العامة للمجتمع
صوت الأمل – يُمنى أحمد التعليم هو الطريق الأمثل لقيام مجتمع سوي يتمتع أفراده بالحرية والمس…