الصراع دمًر حوالي عشرة آلاف معلم معماري يمني حتى العام 2021 منها ثلاثة مواقع مسجلة في قائمة التراث العالمي
صوت الأمل – ياسمين عبد الحفيظ
“زرت تعز في العام 2019. وكعادتي، أول مكان أزوره فور وصولي المدينة هو قلعة القاهرة. إنه المكان الذي يجعلني أرى المدينة بأكملها، وأشاهد العديد من المباني الأثرية من مساجد تاريخية وأحياء ومنازل قديمة. لكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا فقد التهمت نيران الصراع المسلح أجزاءً من القلعة، وباتت مدمرة وملامحها مشوهة. بمجرد أن تنظر إلى أسوارها، تدرك كمية الضرر الذي لحق بالنمط المتفرد والتاريخي للعمارة اليمنية جراء الاشتباكات العسكرية”، بهذه الكلمات بدأت روضة قاسم حديثها عن أثر الصراع على معلم تاريخي كانت تقصده كل عام.
تعيش روضة في مديرية الحالي بمحافظة الحديدة وهي من مواليد محافظة تعز، تزورها باستمرار فلديها والدها وأقاربها هناك ومنزل ورثته عن أبيها.
تضيف في حديثها: “ما زلت أتذكر حجم الضرر الذي تركه الصراع على مظهر قلعة القاهرة الشامخة التي تمثل براعة اليمنيين القدماء وتمكُّنَهم في مجال العمارة. بمجرد أن تصل قريب البوابة الرئيسة لها، تلفت انتباهك الأحجار المتناثرة من أسوارها الأمامية التي كانت مرصوصة بعناية وطريقة بناء متفردة، وكذلك أثر الأدخنة التي نالت من جدرانها بعد أن اشتعلت بداخلها النيران نتيجة الاقتتال الذي حدث في المدينة”.
لم يترك الصراع أثره على العمارة اليمنية بتدميرها فحسب، بل تنوعت تلك الأضرار بين تهريب الآثار وسرقتها والعبث بمحتويات الكثير من المعالم الأثرية في البلاد؛ نتيجة إهمال المدن والأحياء التاريخية، وانشغال الجهات المختصة بالمعارك المشتعلة بمختلف مناطق البلاد، إلى جانب تضرر الكثير منها بفعل التقلبات المناخية.
وقد ازداد تضرر الفن المعماري لا سيما في السنوات الأخيرة. وانطلاقا من ذلك، ظهرت العديد من الأصوات التي نادت بضرورة إنقاذ هذا الإرث الحضاري، ومنها الدعوة التي أطلقها الباحث والأكاديمي اليمني الدكتور محمد علي الحاج في بحثه الذي حمل عنوان “دعوة لإنقاذ آثار ونقوش معبد أوام (محرم بلقيس) من النهبِ والتدميرِ والضياعِ والأهمية الحضارية والوطنية للحفاظ عليها وصونها”.
وفيه دعا الباحث إلى إنقاذ أحد أهم المعالم الأثرية في البلاد، معبد أوام في محافظة مأرب، الذي يتعرض -بسبب الإهمال- لعمليات سطو ونهب لآثاره ونقوشه، إضافة إلى تعرضه للتدمير والعبث بمحتوياته.
وأوضح الكاتب بعض الأضرار التي تعرض لها المعبد مثل سرقة النقوش المسندية وتهريبها إلى خارج اليمن، وكسر والعبث بما تبقى من نقوش في المعبد، إضافة إلى حفر وتدمير بعض مداميك وأحجار تابعة له بهدف البحث عن معادن ثمينة. واعتبر الباحث أن حماية هذا المعبد بمثابة الحفاظ على الهوية الوطنية اليمنية.
تضرر الفن المعماري في اليمن
صور عديدة للأضرار التي تركها الصراع في اليمن على الفن المعماري، منها ما تطرق لها الأكاديمي محمد علي العروسي، أستاذ العمارة والسياحة بجامعة صنعاء، في حديثه لصحيفة “صوت الأمل” قائلًا: “أولا تعرضت العديد من المنشآت والعمائر التاريخية للخراب والتدمير في عدد من القرى والمدن التي تعرضت للصراع أو التي دارت مواجهات مسلحة بالقرب منها أو في بعض أحيائها. واختفاء هذه المنشآت يعني اختفاء طراز وعناصر ومكونات معمارية تاريخية فريدة ونادرة. وثانيا تصدع مباني العديد من المعالم والعمائر والزخارف التقليدية في مناطق الصراعات المسلحة وتعرضها لخطر التدمير والزوال، وبسبب تسخير كافة الموارد الاقتصادية والإمكانات المادية للإنفاق على الصراع وبالتالي فإن إمكانية ترميمها وإصلاح ما تصدع منها يكون في زمن النزاع أمرًا مستحيلاً”.
من جهته يقول خالد أحمد عيسى (مختص في إدارة التراث الثقافي لدى الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية) إن الفن المعماري في اليمن تأثر نتيجة الصراع الدائر في البلد سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ونتج عنه تدمير كامل أو جزئي للعديد من المعالم الأثرية.
وأشار في حديثه إلى أن “هناك تقرير لإحصائية قام بها مركز الهدهد للدراسات الأثرية والتاريخية لعدد المواقع ذات الفن المعماري التي تعرضت للتدمير خلال سنوات الصراع من 2015 إلى 2021م بلغ 9812 موقع ومعلم منها ثلاثة مواقع مسجلة بقائمة التراث العالمي ويعتبر هذا العدد عددًا مهولًا وخسارة على البلد في جانب التراث الثقافي والفن المعماري”.
واعتبر الباحث توقف جميع الأنشطة المرتبطة بهذا الفن، وبالتالي توقف عجلة التنمية المستدامة بجوانبها الثلاثة المهمة بيئيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، إحدى تلك الآثار، إلى جانب هجران المدن والمواقع التي تتمتع بالفن المعماري وتركها للإهمال ولعوامل الطقس المختلفة.
ويضيف في حديثه لصوت الأمل: “أدى الصراع المسلح أيضًا إلى توقف العديد من الأنشطة الحيوية التي كان يمارسها السكان من حرف يدوية ومهن وصناعات كان المجتمع يعيش من خلالها ومنها توقفت شريحة من البنائين ذوي الخبرة في الفن المعماري الأصيل”.
ويتابع: “وعلى الصعيد الاقتصادي توقفت عجلة التنمية الاقتصادية في جانب من جوانبها، وهو السياحة في المدن والمواقع التي تتمتع بالفن المعماري التي كانت في يوم من الأيام تدر دخلًا للفرد والمجتمع والدولة في آن”.
تداعيات مستقبلية
يرى الباحث خالد أحمد عيسى أن التداعيات المستقبلية التي ستؤثر على الفن المعماري اليمني جراء الصراع تتمثل في توقف مشاريع الصيانة والترميم وإعادة البناء لهذا الفن نتيجة لانعدام التمويل والدعم.
وتابع في حديثه: “إضافة إلى ذلك، هناك تراجع وانحسار في الفن المعماري نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمر به المجتمع بسبب الصراع ولعدة أسباب أخرى، منها عدم الوعي أو الإدراك الشامل بأهمية هذا الفن واستدامته، ووجود المواد الحديثة التي أثرت على الفن المعماري (الخرسانة) التي أدت إلى انحسار وتراجع فن العمارة اليمنية الأصيلة، إلى جانب النزوح الجماعي للمجتمع ككل، ومنهم شريحة البنائين، وكلها عوامل تسهم في تراجع هذا النمط المعماري الفريد مستقبلا”.
في الشأن نفسه يقول المهندس عبد الله الأهدل (مدير فرع الأشغال بمديرية بيت الفقيه بمحافظة الحديدة) إن الفن المعماري اليمني مسمى عريض لتاريخ من الأزل ومن الحقب الأولى للبشر، تطور عبر العصور والتاريخ والحضارات التي قامت في عدة مناطق منذ آلاف السنين.
وتابع: “تدرجت العمارة اليمنية والفن المعماري اليمني حتى وصلت إلينا بهذا الزخم الأصيل المليء بالدلالات والأصالة. وقد أثر الصراع المسلح على هذا الفن التاريخي واستمراره”.
ويضيف: “كذلك يؤثر الصراع على استدامة تلك الفنون والمعالم، ويؤدي إلى تهالكها وتدميرها وعدم الاهتمام بها وصيانتها. وهناك الكثير من المباني التاريخية التي دُمرت وانتهت، وبعضها على وشك السقوط”.
وعن الحلول والمقترحات يدعو الأهدل إلى: القيام بعمل رفع مساحي وهندسي من رسومات شاملة ودراسات مكتملة ترصد الواقع والمشاكل الحاصلة والحلول التي ينبغي القيام بها، وبذلك نحافظ على تلك المعالم من حيث حالتها وشكلها وصفتها، وبعد ذلك يتم عمل برامج المعالجات وعدم ترك تلك الأماكن مهجورة واستخدامها كأماكن سياحية وتفعيل صندوق لصيانتها بشكل دوري والحفاظ عليها. يواجه الفن المعماري اليمني العديد من المشكلات التي خلفها الصراع منذ اندلاعه وهو ما يهدد بطمس تاريخ البلاد وإرثها الحضاري؛ لذا يجب على الجهات المعنية القيام بواجبها تجاه هذا الموروث الذي يمثل ثقافة البلاد من خلال الحفاظ عليه وحمايته من الزوال. فالعديد من المدن التاريخية باتت مهددة بالخروج من قائمة التراث العالمية، مثل مدينة صنعاء القديمة، إلى جانب انهيار العديد من المباني الأثرية في كثير من الأماكن التاريخية في البلاد، وهو ما يعني أن الفن المعماري في اليمن على وشك الانهيار ويحتاج إلى تدخل سريع لإنقاذه وإيقاف العبث به.
82% يرون أن انتشار طابع العمارة الحديث من أكبر المشكلات التي تواجه الحفاظ على الطابع التقليدي للعمارة اليمنية
صوت الأمل – يُمنى احمد عرفت اليمن منذ زمن بعيد بجمال عمارتها وتفرد مبانيها بطابع خاص ومميز…