العمارة الحضرمية.. فن إبداعي يجسد التراث والثقافة الفريدة عبر التاريخ
صوت الأمل – أحمد باجعيم
تتمتع البيوت والقصور والحصون الحضرمية القديمة بجدرانها السميكة، المصنوعة من الطوب الطيني الذي يُحرق بعض منه وتلوينه بالألوان الترابية الجميلة؛ ليمنح هذا النوع من العمارة مظهرًا فريدًا وجذابًا فتتميز بأسقفها المعمارية القوية والزخارف المعقدة. وفي بعض البنايات الأخرى يتم إضافة جذوع الأشجار إلى الأسقف التي تضيف إلى جمالياتها الفريدة. وتختلف مناطق وادي حضرموت عن ساحلها، وكذلك هضبتها، بنوعية الفن الهندسي المعماري ومواد البناء بما يتلاءم مع البيئة المحيطة بها.
ووفقًا لمدير مكتب الثقافة بوادي وصحراء حضرموت أحمد بن دويس، فإن الفن المعماري الحضرمي الطيني يكتسب برودة في فصل الصيف وجوًا دافئًا في الشتاء بفعل الخصائص الفزيائية لمادة الطين التي تعتبر مكونًا رئيسًا في بناء البيوت والقصور في محافظة حضرموت جنوبي اليمن. وتمثل العمارة الحضرمية تراثًا تاريخيًا يعود إلى العصور الوسطى وتتميز بخصائص ومميزات تجعلها فريدة من نوعها بجمالها البارز وتصميمها الاستثنائي المقاوم لعوامل التعرية والتقلبات المناخية.
العمارة في وادي حضرموت
يقول مدير مكتب الثقافة بوادي حضرموت أحمد بن دويس في تصريح خاص لـ”صوت الأمل” إن الفن المعماري الحضرمي يمثل أحد عناصر التراث الثقافي للمحافظة وجزئية مهمة من الهوية الثقافية، وأنه قد حقق شهرة واسعة لاستخدامه مادة الطين كمكون أساسي في البناء، بالإضافة إلى مواد أخرى تخلط مع الطين للحصول على مادة بناء أكثر تماسكًا وقوةً، إلى جانب استخدام مواد أخرى كخشب أشجار السدر والأثل والأحجار والنورة، وجميعها يؤخذ من البيئة المحلية، وكذلك ملاءمة تلك المواد المستخدمة في البناء الطيني مع ظروف البيئة المحلية من حرارة وأمطار، وكذلك مراعاتها للوظيفة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية للمسكن الحضرمي. وهو ما نلاحظه في بيوت مدينة شبام التاريخية والمباني الطينية في مدن وقرى الوادي، مثل قرى مديرية دوعن ومناطق مختلفة من وادي وصحراء حضرموت.
ويوضح بن دويس أن النمط السائد للعمارة في وادي حضرموت هو شكل العمارة الطينية التي تمتاز باعتمادها على مواد البيئة المحلية في تشكيل مادة البناء والتشييد، وكذا في تكيفها مع الخصائص المناخية السائدة التي تكتسب الحرارة صيفًا ببطء وتفقدها شتاء ببطءٍ أيضًا، إلى جانب مراعاة مصمم المسكن الطيني للخصائص الاجتماعية من قيم وعادات المجتمع والخصائص الدينية كتخصيص مكان للصلاة والعبادة وموقع خاص للحبوب في المناطق الزراعية، وكذلك المياه داخل المنزل، بالإضافة إلى مكان منعزل للمواشي.
وأضاف بن دويس في تصريحه أن هناك مستوطنات بشرية، أو ما يعرف محليا بـ”العاديات” وهي المباني الأثرية القديمة التي تعود إلى زمن عاد، والمنتشرة في كثير من مناطق حضرموت. وكذلك القلاع والحصون التي يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام، والبعض منها إلى ما قبل الميلاد، قد أصبحت اليوم عبارة عن أنقاض أو أطلال تحكي تاريخ أقوام سادت ثم بادت. وعن شواهد العمارة الإسلامية، فهناك معالم معمارية لا زلت قائمة، أشهرها المدن التاريخية وجامع هارون الرشيد في مديرية شبام ومدينة الهجرين التاريخية ومسجد بن عبيد اللاه في منطقة بور في سيئون، بالإضافة إلى الأضرحة والقباب والمعالم الدينية.
واسترسل في حديثه أن تلك المعالم تعود إلى مطلع القرن العشرين، مثل منارة المحضار وعدد من القصور في مدينة تريم التي مزجت بين الفن الحضرمي والفن في جنوب شرق آسيا بفعل الهجرة
إلى تلك الدول، وقصر الكثيري في سيئون. وامتازت تلك المباني بشكل عام بوجود النقوش المستوحاة من البيئة المحلية، لا سيما النقوش النباتية والنقوش ذات المدلول الديني كالنجمة السداسية في بعض المباني وأشكال بعض الحيوانات كـ”الوعل” تحديدًا.
الفن المعماري في ساحل حضرموت
أشارت المرشدة السياحية في قصر القعيطي بالمكلا سمية باعشن أن تنوع مناخ حضرموت، بين ساحل ووادٍ وهضبة، أدى إلى تنوع فنها التراثي المعماري، فيمتاز الفن المعماري لمدينة المكلا القديمة باللون الأبيض والبيوت المبنية من قطع الصخور البحرية بالإضافة إلى الطين الممزوج بالتبن الذي أكسبها رونقًا خاصًا، متفردةً عن الفنون المعمارية اليمنية الأخرى. وتتكون أغلب بيوتها من طابقين إلى سبعة طوابق، حيث اهتم المعماريون آنذاك بتشكيل هندسي إبداعي للعمارة وزخارف تحاكي تلك الحقب الزمنية التي بقيت المباني القديمة شاهدة عليها.
وأكدت باعشن “أنه في الحقبة الزمنية لسلطنة القعيطية، وبالتحديد في خلافة السلطان عمر، تم إدخال الطابع المعماري الهندي في بناء وتشييد قصر القعيطي مع مزج الطابع المعماري المحلي لتتكون تحفة معمارية غاية في الجمال التي تعرف اليوم بـ”قصر القعيطي” أو متحف المكلا. ومن بعده بُنيت الكثير من البيوت القديمة بالطابع المحلي المعروف ممزوجا بالفن الهندي. كما تتميز العمارة في الساحل بكثرة الزخارف والنقوش في البوابات أو ما يطلق عليها محليًا بـ”السدة” للبيوت والقصور، وكذلك على النوافذ والفواصل بين الطوابق، وتعد كحزام من جميع الجهات.
ومن هذه الحصون والقلاع القديمة التي تم تشييدها وفق الفن المعماري الحضرمي في مناطق ساحل حضرموت حصنُ الغويزي الذي يعود بناؤه إلى عام 1817م وعددٍ من الأكواخ المنتشرة على أطراف مدينة المكلا القديمة، وحصن بشيبة القريب من قصر القعيطي، وسدة العيدروس، والجامع الكبير بالشحر، وقصر البالغ، وحصن العوالق بمديرية غيل باوزير، وغيرها من المعالم الأثرية التي شيدت وفق الفن المعماري الحضرمي مع مزيج من الفن المعماري الهندي والشرق آسيوي الذي استخدم فيها مواد محلية؛ لتظهر صلابتها ومقاومتها للتأثيرات الخارجية حسبما ذكرت المرشدة السياحية سمية باعشن.
تطور العمارة في حضرموت
المهندس المعماري والباحث في مجال العمارة الطينية محمد مصيباح يقول إن انتقال فنون العمارة من الهند ودول شرق آسيا إلى حضرموت ساهم كثيرا في تطور المهنية المحلية، وتقدم فن العمارة الطينية خطوة إلى الأمام في زمن التحولات، فتناقل الناس معطيات العمارة الجديدة وتقبلوا جديدها منفذين ذلك في مبانيهم السكنية، وهنا اكتسبت المهارة المحلية خبرة قادتها إلى مرحلة أخرى فنفذت الغرف الواسعة وابتنت “الناقل” (كلمة هندية تعني ملحقات البيت المستقلة) والشرفات، وظهرت الأعمدة الحجرية، وتناقل المهني البسيط أهمية الزخارف والنقوش ووظفها بصورة أخرى ساهمت في تنامي فكر المهني المحلي.
وأردف مصيباح: “بوصول الجديد من فنون عمارة المهجر إلى حضرموت اعتبر البعض أنها أفقدت الفن المعماري المحلي قدرة التطور، لكنه في ذات الوقت ساقته إلى إيجاد ابتكارات أخرى طوعت الحرفين على تقديم حلول أكثر تطورًا غير الحلول التقليدية. وبفضل هذه الابتكارات لا تزال العمارة في حضرموت تعيش وتنمو في الوقت الحالي، وليست إرثًا انتهى بموت مورثه؛ فالقصور الطينية في عموم حضرموت التي نشاهدها اليوم غير متأثرة بالعوامل الخارجية والكوارث الطبيعية هي خير برهان على قوتها ومتانتها بفضل الحنكة الحرفية التي يتمتع بها المعماريون المحليون والاستفادة من الفنون الأجنبية في زيادة عمر العمارة الحضرمية”.
وعن الطُّرز التي استخدمت في العمارة الحضرمية، تابع المهندس والباحث محمد مصيباح كلامه بالقول إن أول طراز دخل في العمارة الحضرمية هو الطراز الكلاسيكي، ومن ثم فنون معمار المستعمرات المعروفة بالطراز الكولنيالي والطراز الباروكي، وامتهن الحرفيون هذه الطُّرز بشكل احترافي في مدينة تريم؛ حيث برزت إبداعاتهم في خلط مواد بسيطة للحصول على نقوش وأشكال هندسية، بل والتفكير في إيجاد صبغات لونية أكثر جاذبية للمشاهد فأضافت للعمارة في حضرموت رونقًا أكثرَ جمالية وإبداعية تخدع ناظرِيها تجعلهم يشكُّون في أنها مصنوعة من مادة الطين ومواد محلية بسيطة.
حلول للمحافظة على الفن المعماري
طالب مدير مكتب الثقافة بوادي حضرموت أحمد بن دويس بالالتزام بالقوانين والتشريعات التي تحافظ على البناء الطيني، والاهتمام بـ”العمَّار الطيني” الحضرمي وتطوير قدراته، وتدريس فنون العمارة الطينية في مناهج أقسام كليات الهندسة في الجامعات اليمنية وفي حضرموت خاصة، وكذا طالب باهتمام الهيئات والمنظمات الإقليمية الدولية، ومنها اليونسكو، في إدراج عدد أكبر من المعالم والمدن ضمن قائمة التراث العالمي، والتنبه لأبعاد استخدام الإسمنت والبناء المسلح في بعض المناطق المحتوية على العمائر الطينية القديمة مما سيؤثر سلبًا على إدراجها ضمن قائمة اليونسكو مثل مدينة الهجرين، ومثلما يهدد البناء الإسمنتي قصرَ الكثيري بسيئون، وهو ما يحجب رؤيته وربما طمس مستقبله.
ومن جانبها شددت المرشدة السياحية سمية باعشن إلى أهمية دعم المهتمين في مجال الفن المعماري الحضرمي أو الفنون اليمنية المتعددة ببرامج تدريبية، وكذا الدعم المادي من قبل المنظمات الدولية أو المؤسسات المحلية المهتمة بالعمارة الطينية والثقافة والسياحة، بالإضافة إلى المسح الميداني وتوثيق المباني القديمة وترميمها بشكل دوري ومستمر للحفاظ عليها من الاندثار في ظل غياب الجهات الرسمية والمعنية من القيام بدورها المأمول. تعتبر العمارة الحضرمية اليوم إلى جانب الفنون المعمارية اليمنية الأخرى مصدرًا للفخر الوطني ورمزًا للهوية الثقافية والسياحية أمام العالم، والأهم من ذلك أنها تعكس تقنيات ومعرفة في الهندسة المعمارية قديمة في مجال العمارة والتصميم المعماري؛ ولذلك تستحق العمارة الحضرمية التقدير والحماية اللازمة؛ للحفاظ على تراث اليمن المعماري التاريخي.
82% يرون أن انتشار طابع العمارة الحديث من أكبر المشكلات التي تواجه الحفاظ على الطابع التقليدي للعمارة اليمنية
صوت الأمل – يُمنى احمد عرفت اليمن منذ زمن بعيد بجمال عمارتها وتفرد مبانيها بطابع خاص ومميز…