حماية ودفاع.. أهمية الأغراض الحربية في الفن المعماري اليمني
صوت الأمل – أحمد باجعيم
تفردت الفنون المعمارية اليمنية بمختلف أنواعها البارزة والمعقدة، التي تجعل منها آثارًا فنية فريدة، تعكس مهارة المهندس اليمني في تصميم هذه القلاع والحصون والقصور وبنائها منذ مئات السنين، ولم يهمل مواقع التحصينات والدفاع لمواجهة أي أخطار للغزو، فشيّد مناطق تعتلي القلاع والحصون مخصصة للحماية، لذا يمكن القول إنّ الأغراض الحربية تمثل جزءًا لا يتجزأ من الهوية اليمنية العريقة وتاريخها الحافل بالأحداث على مر العصور والثقافات المتعددة، وهي عنصر أساسي من التراث الغني الذي تتمتع به البلاد.
وشهدت البلاد على مدى القرون الفائتة صراعات متواصلة بين الدويلات والسلطنات والثارات القبلية، بالإضافة إلى الاستعمارات الأجنبية، لذلك لم تخلُ العمارة اليمنية القديمة من وجود الأماكن الحربية والعسكرية، وأيضًا على مداخل المدن، وفي المرتفعات والأسوار التي تحيط بالمدن وتحميها، كما تعدُّ الأغراض الحربية رمزًا للقوة والشجاعة التي يتمتع بها اليمنيون قديمًا؛ إذ أضفت هذه الأغراض على الفن المعماري المحلي طابعًا تاريخيًّا وإرثًا ثقافيًّا متميزًا ومختلفًا بتصاميمها المحلية المتنوعة.
القلاع
قال الدكتور خالد باوزير (الباحث والمؤلف للعديد من الكتب في التاريخ، وأستاذ في جامعة حضرموت): “نتيجة الصراعات الدائرة بين الدويلات في ذلك العصر، تبنى العمارة منذ ما قبل التاريخ على وجود أماكن تستخدم للأغراض الحربية، ومنها القلاع العسكرية لحماية المدن من الغزاة، وبعضها يُعمَل عليها أسوارٌ عالية تهدف لذات الغرض. وتختلف مواقع الحماية من منطقة إلى أخرى، منها ما يتم تخصيص أماكن دفاع في الأماكن العلوية للعمارة، والبعض دهاليز تحت الأرض لمباغتة العدو والانقضاض عليه، وهذا يدل على أن تصميم العمارة اليمنية لم يخلُ من الاهتمام بالتحصينات الأمنية”.
وأوضح باوزير في تصريح صحفي خاص لـ”صوت الأمل” أنّ القلاع في الفنّ المعماري المحلي تُشيّد في قمم الجبال لموقعها المطل على الكثير من المناطق، وكذا تعطي الغلبة في المعارك للطرف المسيطر عليها في أغلب المعارك، وتنتشر في محافظة حضرموت العديد من (الأكوات) وهي مبانٍ أصغر من القلاع في الحجم تُبنى على المرتفعات خارج المدن، وغرضها الرئيس مراكز حماية ودفاع، وتعدُّ هذه القلاع منشآت دفاعية لاعتراض الغزاة من محاولة الاستيلاء على المناطق، وتطلق منها القذائف التي تعرف قديمًا بأسلحة (المجانيق) وهي أكثر الأسلحة تطورًا آنذاك.
واستشهد باوزير في حديثه بعدة قلاع أو (أكوات) في حضرموت تمَّ تعميرها لأغراض حربية، منها في منطقة الصدف بمديرية وادي العين، أثناء حكم (كندة)، و(أكوات) عديدة أخرى تنتشر في جبال سيئون وشباب والقطن بوادي حضرموت، وفي مرتفعات المكلّا، التي تحيط بقصر القعيطي؛ لحمايته من أي اعتداء خارجي، وكذا في محافظة شبوة. وتتوفر في هذه القلاع أماكن مخصصة، مثل: مستودعات للأسلحة والذخائر، وبئر للمياه، وتموين للغذاء في حالة الحصار، ممّا يعطيهم نفَسًا أطول للبقاء والمواجهة.
الحصون
بُني الحصن بتصاميم عسكرية ودفاعية، يستخدم كدرع حصين في المعارك والحروب، والذود على المدن من الغزو أو الصراعات القبلية، تميّز الفن المعماري اليمني بتعدد أشكاله وفنونه بتشييد الحصون العسكرية منذ مئات السنين؛ لحماية أراضيهم من أي سطو قادم، وكذا يعدُّ الحصن مركزًا للسلطة الحاكمة في أوقات السلم والاستقرار.
وفي ذات الصدد أشار خالد مدرك (رئيس مؤسسة حضرموت للتراث والتاريخ والثقافة) أنّ العمارة الحربية والتحصينات والاستحكامات العسكرية بمختلف مسمياتها، كالحصون التي تعدُّ جزءًا لا يتجزأ من العمارة الحضرمية واليمنية بشكل عام، نتيجة بعض العوامل التي أثرت في تلك الحقبة الزمنية، ومنها: التمزق الاجتماعي السياسي، والنزاعات المسلحة، والثارات القبلية، وغيرها من هذه العوامل، بالإضافة إلى عدم وجود منظومة سلطة موحدة في معظم الحقب الإسلامية، وحتى أربعينيات القرن العشرين، كلّ ذلك دفع إلى اختيار المنزل المحصّن أسلوبًا معماريًّا مفصلًا، إضافة إلى بناء التحصينات المتفردة.
واستطرد مدرك في تصريح خاص لصحيفة (صوت الأمل) “نتيجة للمتغيرات في ذلك العصر، ظهرت المنازل والحصون ذات الزوايا المتعددة، وأيضًا القلاع ذات البناء شبه الدائري -تسمى بـ”المعاصير”- الموجودة في زوايا الحصن وتتميز بوجود “المشاويف” (فتحات صغيرة جدًا بالكاد تسمح بدخول البندقية بغرض القنص) متعددة الاتجاهات؛ لإطلاق الرصاص على الغرباء من الأعداء. ولم تنتهِ الوظيفة الدفاعية للمساكن بشكل تامّ إلَّا في ستينيات القرن العشرين، بعد استتباب الأمن، وانتهاء الصراعات القبلية بشكل عام”.
وفي ذات السياق تحدث مدير مكتب الثقافة بمديرية الضليعة غرب محافظة حضرموت صالح بامقدم لـ(صوت الأمل) أنّ هناك أعدادًا كبيرة من الحصون متناثرة في قرى ومناطق المديرية شُيّدت قبل نحو (500) عام، صُممت للأغراض الحربية والعسكرية، هدفها الدفاع عن الأراضي أثناء الحروب والصراعات والثارات القبلية، ووصف الحصون بأنّها تعدُّ بمثابة الأبراج المدافعة عن التجمعات السكانية في المناطق.
وأردف بامقدم قائلًا: “يرتفع بنيان الحصون إلى أدوار تتراوح ما بين 8 إلى 12 طابقًا في المناطق الريفية، وهذا يساعد على كشف الأعداء وأماكن تخفيهم خلال الغزوات والثارات القبلية قديمًا. وهي اليوم بحاجة إلى ترميم شبه دوري؛ لحمايتها من الاندثار، بسبب تأثرها بالعوامل الطبيعية كالأمطار وغيرها” مبينًا أنّه لا تتوفر إلى الآن أي إحصائية لدى مكتب الثقافة عن عدد الحصون الموجودة، ولكن المكتب في هذا العام 2023م بصدد حصرها وتوثيقها؛ لأنها تعدُّ من الماضي الأصيل للبلاد.
النُّوَبْ
ذكر الدكتور باوزير أنّ الفن المعماري اليمني القديم اهتمَّ في بناء “النوب”، أو كما يعرف في بعض المناطق بالزوايا، وهي جعل أركان العمارة على شكل نصف دائرة؛ لكي تطل على أكثر من اتجاه، وبها فتحات أو نوافذ صغيرة يستخدمها المقاتلون لرماية العدو، ويعدّ أسلوبًا مختلفًا عن الأغراض الحربية الأخرى، وكذلك يتم رصد أعداد الغزاة، وتحديد أماكنهم، واستكشاف الأرض من أي كمائن قد تحدث أثناء المعارك، ولها مهام إضافية، منها تعطي قوة أكبر للعمارة ومقاومة لعوامل الطبيعية.
ومن جانبه أكد خالد مدرك أنّ القلاع والحصون وغيرها من المسميات، التي تستخدم للأغراض الحربية أو تصاميم جمالية في الفن المعماري اليمني أو بعض الفنون المعمارية العربية والإسلامية توجد بها (النوب) أو الزوايا منذ بناء العمارة القديمة؛ لمهامها المتعددة؛ سواء قتالية أو ثقافية تضفي جمالية وتميزًا معماريًّا فريدًا، منوهًا أنّ أغلب الحصون في المديريات الريفية بحضرموت، كمديرية الضليعة تمتاز بالزوايا، التي تسمى محليًّا هناك (المعصورة أو المصنعة)، التي تمَّ تشييدها للاحتماء نتيجة الصراعات القبلية في تلك الحقبة الزمنية.
وفي الختام، جعل الفن المعماري اليمني للاحتياجات الحربية مكانة أساسية في تشييد الكثير من القلاع والحصون، وغيرها من الأغراض، التي تساعدهم في التصدي لعمليات الغزو، كما أنه يعكس الحالة الاجتماعية لليمن المتأثرة بشدة من الصراعات بين الدويلات والنزاعات القلبية، التي سيطرت على تلك الحقبة الزمنية في ذلك الوقت، وبقيت العمارة شاهدة تروي لنا الأحداث التي تأثرت بها البلاد. وينبغي على المجتمع المحلي الاستمرار في الحفاظ عليها، والتعزيز من مكانتها التراثية والثقافية، والتسويق السياحي، ممّا يعكس تمسكهم بتاريخهم الأصيل، وكذا يتطلب من المنظمات والمؤسسات المانحة تقديم الدعم اللازم لترميمها والاهتمام بها من العوامل الطبيعية، بما يضمن بقاء هذا الفن المعماري الفريد، الذي يعدُّ وجهة سياحية لليمن في المستقبل القريب.
82% يرون أن انتشار طابع العمارة الحديث من أكبر المشكلات التي تواجه الحفاظ على الطابع التقليدي للعمارة اليمنية
صوت الأمل – يُمنى احمد عرفت اليمن منذ زمن بعيد بجمال عمارتها وتفرد مبانيها بطابع خاص ومميز…