التنشئة الأسرية والمجتمعية وعلاقتها بالانتحار
صوت الأمل – حنين الوحش
تلعب التنشئة الاجتماعية والتربوية دورًا حاسمًا في بناء شخصية الفرد وتأهيله من مختلف النواحي النفسية والبدنية. ومما لا شك فيه أن الظواهر السلبية والضارة للمجتمع تأتي نتيجة خلل في المفاهيم أو المبادئ التي تربت عليها الأجيال في مختلف الشرائح الاجتماعية والمراحل العمرية.
فكرة تغذيها نظرة المجتمع
يمر الشخص يوميًا بالعديد من الأحداث والمواقف التي قد تكون ضده، وتختلف قدرات التحمل من شخص إلى آخر. ومنذ بدء الصراع في اليمن، ومع تزايد أعداد القتلى بدا منظر الموت طبيعيًا لدى الأفراد، إلى درجة أن بعضهم يعلق بجملة “الموت راحة”.
(م. ع)، أحد أبناء مدينة عدن لم يتجاوز الـ23 عامًا، أقدم على الانتحار في نهاية شهر فبراير من العام الجاري 2023 عبر ربط مشنقته في سقف غرفته، ليتفاجأ من حوله في اليوم التالي بخبر موته ولأسباب غير واضحة.
وبحسب ما جاء على لسان جيرانه، كان (م. ع) يعاني من مشاكل أسرية كثيرة أدت إلى انعزاله، خصوصًا في الفترة الأخيرة قبل انتحاره، وفقدان الرغبة في الخروج والاندماج مع المحيط. ويبدو أن قرار تركه للحياة كان حلاً مثاليًا بالنسبة إليه.
كذلك، عايشنا قبل فترة قصة الشابة التي رمت نفسها من فوق جسر في العاصمة صنعاء، وعند تتبع الأسباب اتضح أنها كانت في إطار الضغوطات والمشاكل الأسرية.
دراسات وأرقام
وحول الدراسات المتعلقة بالانتحار، قدم الدكتور صبري العلوي (رئيس مركز الرقيم للدراسات التنموية والتطوير المؤسسي) بحثًا بعنوان “ظاهرة انتحار الشباب والأطفال في اليمن: محافظة لحج نموذجا” ذكر فيه أن عمليات الانتحار التي حصل عليها الباحث عن طريق الاستطلاع الميداني من العام 2019 إلى 2022 وسُجلت في أقسام الشرطة قد بلغت 45 حالة. واللافت للانتباه أن غالبيتهم كانوا دون الـ20 عامًا بنسبة (57%)، بينما الشباب ممن هم دون الت25 عاما فبلغت نسبتهم (30%)، ونسبة الشباب ممن هم دون الـ40 عاما فحوالي (3%). وهذا ما اعتبره الباحث مؤشرًا خطيرًا جدًا على مستقبل الأطفال والشباب.
ومن حيث الجنس، فقد بلغ نسبة الأطفال والشباب المنتحرين من جنس الذكور حوالي (90%)، بينما بلغت نسبة الانتحار لدى الإناث (10%)، ويعزو الباحث ذلك الفارق إلى الأعراف والتقاليد التي تعد انتحار الفتيات أمرًا معيبًا؛ مما يجعل الفتاة أكثر تحملاً.
وأوضح البحث بشكل مفصل أن تلك النسبة الكبيرة جدًا، التي جاءت بمعدل حالة انتحار شهريًا، كانت في إطار محافظة لحج فقط. ومما يزيد الأمر خطورة أنها سجلت تزايدًا مستمرًا؛ حيث بلغت نسبة الانتحار في عام 2019 (15%)، وفي عام 2020 ارتفعت النسبة وبلغت (23%)، أي بفارق (8%). ومن ثم سجلت في العام 2021 نسبة (29%)، وفي عام 2022 كانت النسبة مرتفعة جدًا بلغت (33%)، لا سيما أنها في حالة انتشار وتوسع بشكل كبير مما ينذر بكارثة حقيقة إذا تم قياس الوضع في إطار عام وعلى جميع المناطق.
بواعث وأسباب
من الجانب النفسي والاجتماعي، عرف الدكتور علي زين (أستاذ مساعد في علم الاجتماع) أن الانتحار عبارة عن أفكار يواجهها الشخص بمفرده، ولا يمكن للآخرين (كالمقربين والأصدقاء الموثوق بهم) مشاركته فيها أو استشارتهم في حل المشكلات.
مبينًا أن الأسباب التي تدفع الشخص إلى التفكير في الانتحار هي نفسية واجتماعية ومعيشية، بحسب شخصية الإنسان. وغالبا من يقدم على هذا الفعل هم أصحاب الشخصيات الضعيفة المضطربة وغير القادرة على مواجهة مصاعب الحياة. ويؤكد أن فكرة الانتحار تتشكل لدى الفرد بعد عدة محاولات فاشلة في الانسجام مع المحيط والوضع الخاص به، وقد تنتج عن عدم تقدير الذات، أو عدم تقبل المجتمع له.
ومن جانبه، يضيف الباحث العلوي قائلًا: “من خلال الاستطلاعات التي عملت عليها سابقًا -الخاصة بموضوع الانتحار وبالتحديد انتحار الفئة ما بين 15-20 عامًا- تبين أن هذا مؤشر خطير جدا. وكنسبة تقديرية في بعض المناطق الجنوبية التي أُجري الاستطلاع فيها، فإن النسبة التقديرية لها وصلت إلى معدل واحد ونصف أو اثنين في هذه المناطق”. مؤكدًا أن البواعث كثيرة، ومن أهمها: تدني الوضع الاقتصادي، ارتفاع معدلات الفقر، تزايد المشاكل الأسرية والطلاق، عدم الرقابة الأبوية على المحتوى الذي يشاهده أطفالهم الذي فيه نسبة كبيرة من العنف وأفكار ترسخ هذه الفكرة، خصوصا بينهم.
ومن خلال الاستطلاع الذي قُدم إلى أولياء الأمور والمدرسيين والشخصيات الاجتماعية، تمحورت معظم الإجابات في: الإحساس بالخوف من الحياة ومن الفشل، عدم الإحساس بالأمان في البيت بسبب مسألة الطلاق وانفصال الأبوين، التحرش الجنسي الذي يعد أحد الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى الانتحار بين الأطفال تحديدا؛ حيث يكون التحرش صادرًا من بعض أفراد الأسرة كالأب أو الأخ أو من الأقرباء. وهنا يفقد الطفل الشعور بالأمان وسط أسرته التي من المفترض أن ترعاه، ومن ثم لا يشعر بالأمان خارج العائلة، لا سيما أن قصص التحرش بالصغار لم تعد مقتصرة في البيوت، بل أصبحت في كل مكان حتى في المدارس.
ومن الأسباب أيضًا الخوف من الفشل في الدراسة أو العقاب في المدرسة أو من النتائج الضعيفة التي تدفع الأهل إلى اتخاذ العقاب. وهناك التمييز والتنمر، وعدم توفر الحاجات الأساسية من المأكل والملبس والسكن، ومقارنة الأطفال أنفسهم بالآخرين.
وعن أهم أسباب شروع الأطفال في الانتحار نجد حب المغامرة والفضول؛ فالكثير من البرامج التلفزيونية والأفلام، وبعض برامج الكارتون، تشجع على ذلك. بالإضافة إلى ألعاب الفيديو التي تحتوي على العنف، وغياب المسؤولية المشتركة بين الأسرة والمدرسة والإعلام والتعليم.
معالجات وتوصيات
وحول المعالجات قال الدكتور زين إن الوسيلة التي تقي الإنسان من الإقدام على مثل هذا الفعل هي إشراك الآخرين -كالأصدقاء والمقربين الموثوقين- في مناقشة وحل المشاكل الشخصية، وتقديم الإرشاد النفسي والاجتماعي الذي يجنب الفرد مواجهة ضغوطات الحياة بمفرده ويبعده عن الانعزال الذي تسيطر فيه سوداوية الأفكار على المنعزل.
أما بالنسبة للتوصيات التي قدمها الباحث العلوي فيقول: “يجب على الفرد والأسرة والدولة والمجتمع الانتباه لهذه المسائل؛ إذ ليس من السهل علاجها. وتحتاج إلى ثورة حقيقية تعليمية واجتماعية وعائلية. ويجب على الآباء أن يفتحوا مجالاً للحوار مع أطفالهم؛ فالأزمات التي تعيشها اليمن والاضطرابات الاجتماعية سوف تزيد من حالات الانتحار”.
مضيفًا أن الاقتراب من الطفل والاستماع إليه مهم جدا، والشعور بالأمان أمر يحتاجه الطفل؛ لأن شعوره أن في هذه الحياة من هو على استعداد أن يقف معه ويساعده سيجعله واثقًا وقويًا، ويحل المشاكل التي قد يتعرض لها، وأن يفتتح معه حوارات دون توبيخ أو عقاب، وأن يتقبل كل شيء من الطفل؛ فليست لديه قدرة الكبار في أن يحلل ويفكر ويقرر، ويجب أن يسمح له بالتعبير عن الأفكار والمشاعر السلبية.
وأكد على ضرورة الاهتمام بالمعلمين؛ فالمعلم في بلادنا غير مؤهل للتعامل مع الطلاب، وليس لديه خلفيات معرفية في علم النفس وفي كيفية التعامل مع التلاميذ؛ لذا لا بد من وجود فريق تعليمي يتلقى دورات تدريبية بشكل مستمر من أجل ذلك، ونشر الوعي حول حقوق الطفل بين الناس وتوفير الإرشاد الاجتماعي في المدارس الأساسية والثانوية ونشر الوعي الديني والتربية الوطنية والقيم والمبادئ الإنسانية. وختامًا، تجمع التقارير والآراء العامة لذوي الاختصاص أن معظم حالات الانتحار نتجت عن تدني مستوى المعيشة، وعن الاعتداءات -بمختلف أشكالها- التي تسببت بعواقب نفسية وخيمة أدت إلى فقدان الرغبة في الحياة وزادت من الإقبال على إنهائها.
المرأة اليمنية والطهي.. قَدَرٌ منذ الولادة أم مجرد مهارة؟
صوت الأمل – حنين الوحش في مجتمع غلب عليه طابع الحكم على أساس الموروثات والعادات والتقاليد …