الانتحار في اليمن.. موت مغلف بالمجهول والنهايات المبهمة
صوت الأمل – هبة محمد
ازدادت حوادث الانتحار مؤخرًا في اليمن بشكل مخيف للغاية، خاصة وسط فئة الشباب، إلى درجة تكاد فيها أن تصبح ظاهرة مجتمعية مقلقة، لا تقتصر على منطقة معينة بل تتسع وتمتد لتشمل كل المحافظات اليمنية.
هناك العديد من العوامل التي تفاقم هذه الظاهرة وهي في الغالب اقتصادية ومجتمعية، وهناك أسباب صحية وأخرى ناتجة عن الوسط البيئي الذي يحيط بضحايا تلك الظاهرة.
يسلط هذا التقرير الضوء على أهم المخاطر والآثار الناجمة عن هذه الظاهرة الدخيلة على المجتمع، وأبرز الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى تفشيها، وكيف يمكن مواجهتها والقضاء عليها.
سلوكيات وأفكار مجتمعية تعزز فكرة الانتحار
قبل أن نتحدث عن مخاطر وآثار ظاهرة الانتحار، هناك أسباب تجعل الفرد يقدم على الانتحار وإنهاء حياته. ولعل تلك الأسباب تتمثل في مجموعة من السلوكيات والأفكار المجتمعية التي تعزز فكرة الانتحار عند الفرد، سواء كان طفلاً أو امرأة أو رجلاً.
يذكر الدكتور صبري عامر -أخصائي في الصحة النفسية والإرشاد الأسري- بعض الأفكار التي تساعد على انتشار ظاهرة الانتحار في المجتمع وهي انتشار طاقة الوعي الجمعي المحبطة (أي عدم وجود ما يشجع الإنسان على التطور الذهني والفكري والسلوكي)، وأيضًا انعدام الحملات التوعوية في المدارس والجامعات والإذاعات المختصة، بالإضافة إلى عدم وجود نشاطات مجتمعية ترفيهية يتم فيها دمج الأفكار النفسية المدروسة بطرق علمية ومهنية من قبل المختصين.
ويواصل الدكتور عامر قائلا: “كل ما ذكر يعزز انتشار فكرة الانتحار لدى الفرد، ويتحول إلى سلوك فكري نفسي يشعر صاحبه بالإحباط أو يدفعه إلى الهروب من تصحيح واقعه بطرق واضحة وسليمة، مما ينمي فكرة الانتحار. كما أن هناك شريحة معرضة لهذه الظاهرة بشكل مباشر، تلك الشريحة التي تعاني من ضغوطات أو أمراض نفسية في وسط يمارس الابتزاز والتنمر ليتحول ذلك الوسط إلى بيئة خصبة لهذه الأفكار والسلوكيات المؤدية إلى إنهاء الحياة”.
موت مغلف بالمجهول
الكثير من حوادث الانتحار في اليمن تنتهي بلا معرفة الأسباب، ولا تريد أسرة المتوفى معرفتها من الأساس. الجميع يحاولون طمرها، والبحث عن أسباب أخرى تغطي نظر المجتمع وتمنع تنمره تجاه أسرة المنتحر؛ لذلك، أغلب تلك القضايا تَؤُوْل إلى المجهول والنهايات المبهمة.
مخاطر الانتحار
يؤدي الانتحار عادة إلى نتائج تنعكس على أسرة المنتحر بالدرجة الأولى، وبالتالي سيتأثر جميع أفراد أسرته؛ حيث تترك كل حالة انتحار مأساة على الأسر والمجتمعات وتخلف وراءها آثارًا طويلة الأمد على الأشخاص المحيطين بالمنتحر.
تتفق الأخصائية النفسية سميرة الشهاري مع الدكتور عامر في أن الانتحار هو أهم المخاطر الاجتماعية المترتبة أو الناتجة عن بعض الأمراض النفسية بحد ذاتها، وإن كان يقل بين الأطفال مقارنة بالرجال والنساء. ويعللان ذلك في أن الانتحار نهاية حياة تترك بعدها مخاطر نفسية على الأسرة. ومن تلك المخاطر الشعور بالصدمة والاكتئاب والخوف ودرجات عالية من الحزن، وفي بعض الأحيان -إن لم يتم معالجة أفراد الأسرة التي انتحر أحد أفرادها- قد يؤدي إلى انتقال فكرة الانتحار إلى أحدهم.
وتضيف الشهاري: “كما يقال: ”مصيبة داخل المصيبة“. يكفي أن الأسرة والمجتمع يفقدان عنصرًا من عناصره، ليس من الناحية الوجودية وحسب، بل من ناحية الفعالية الاجتماعية، وتأثيره في الناحية الاقتصادية للأسرة والمجتمع، وكذا بقية العمليات الاجتماعية والبناء الاجتماعي وغيرها من الأدوار والمواقف التي كان من الممكن للفرد أن يسهم إسهامًا فعالاً لو كان معافًا سليمًا، فضلا عن الأثر النفسي الذي يخلفه المنتحر على أسرته ومجتمعه، بوصف الانتحار كارثةً مرضيةً متعددة الآثار والأبعاد والجوانب”.
فيما يرى الاستشاري في المجال النفسي، الدكتور طه العوبلي، أن المخاطر والآثار المترتبة على الانتحار على أفراد الأسرة والمجتمع تتمثل في مناقضة الفطرة والغاية من خلق الإنسان وهي استعمار الأرض وتنميتها وليس تدميرها وإنهائها؛ إذ يعد الانتحار ارتكابَ محرَّمٍ يغضب الخالق، ويخالف ما أمر به من الحفاظ على النفس، ويلحق بالأسرة الخزي والعار المجتمعي، ويتسبب في خوف المجتمع والنظر إليه على أنه بيئة مرضية.
ويؤكد الدكتور العوبلي في حديثه عن أهم المخاطر التي تترتب على فعل الانتحار بأنها تعطي انطباعًا سيئًا عن الفرد المنتحر وذويه وأنها أسرة مضطربة، ويُظهر أن الدولة وأنظمتها عاجزة عن معالجة قضايا أفراد المجتمع، وتجعل من المستقبل أمام الأطفال سوداويًا وأن الحياة لا تستحق أن تُعاش. كذلك ما يخلفه المنتحر على ذويه من الأسى والحزن، وقد يصيب أحد أفراد الأسرة -خاصة الأم أو الأب- حالة من الاضطرابات النفسية، أبرزها الاكتئاب وتأنيب الضمير الذي قد يجعل الفرد عرضة للاضطرابات النفسية، أو قد يقدم على الانتحار للتخلص منه.
انهيار مجتمعي
يتحدث الدكتور العوبلي عن بعض الحالات التي كانت تأتي إليه لأخذ العلاج النفسي؛ فعلى سبيل المثال وصلته حالة لفرد يعاني من تأنيب الضمير بعد تعرض أخيه للانتحار، وظل يلوم نفسه بأنه السبب وراء ذلك؛ فاندفع إلى القيام ببعض الأساليب التكيُّفية السلبية لينجو من الخزي أو تأنيب الضمير، مثل تعاطي المخدرات وشرب الكحول وضياع الأهداف والقيم والعيش في حالة من التيه واللامبالاة. وقد تتغير أحوال الأسرة، وتصل إلى حد الصراع داخلها وتفككها أو الانفصال بين الزوجين، خاصة إذا كان كلٌ منهم يلقي المسؤولية على الآخر.
ويضيف استشاري الصحة النفسية معاذ مقران أن أهم المخاطر الناتجة عن الانتحار هو الإضرار بالمجتمع في كيانه القائم وأمنه السائد؛ فيخسر المجتمع طاقة من طاقاته التي تؤثر على حركة التنمية في البلاد، لا سيما أن الكثيرين ممن يقدمون على الانتحار هم شباب تتراوح أعمارهم بين 20-40 عامًا. وبذلك تذهب قوامة الفرد على من يعولهم من أسرته وذويه ويفسد دينه ودنياه ويدمر أسرته ومجتمعه.
الانتحار ليس ظاهرة
أجمع الكثير من الباحثين والمختصين في المجال الاجتماعي والنفسي بأننا لا نستطيع الجزم بأن فعل الانتحار قد أصبح ظاهرة؛ لأن الظاهرة لا بد لها أن تكون شائعة، وتكثر حالاتها سواء قَبِلَ المجتمع بها أو كان رافضًا لها.
دراسة الانتحار
يوجه الدكتور مقران الباحثين وجميع مراكز الدراسات والبحوث إلى دراسة الانتحار، وإن لم يكن هناك عدد كبير من الحالات. ويعلل ذلك باستمرارية وقوع الانتحار بين الحين والآخر في أماكن مختلفة. وهذا يعني أن هناك مشكلة مستمرة قد تشكل ظاهرة في المستقبل القريب؛ لذلك يجب أن يكون هناك وقفة جادة من قبل الباحثين لدراسة أسبابه ومخاطره، وأيضا يجب على الجهات المختصة أن توفر مراكز متخصصة بالأسرة والعلاج النفسي؛ لكي نواجه فعل الانتحار قبل أن يصبح أمراً مقبولا وشائعا في المجتمع، بكل الطرق والأساليب الحديثة التي ذكرها بعض المختصين في هذا الشأن، وهي تبدأ من الأسرة وتنتهي بالدولة.
حلول عاجلة
تقول الشهاري: “عندما تقع حادثة الانتحار فآثارها الكارثية واقعة لا محالة على الأسرة والمجتمع، نفسياً وأسريا واقتصادياً واجتماعيا، وعندما نحاول علاج آثار حادثة الانتحار يكون أقل جدوى ونفعًا. لكن العلاج الناجع والحقيقي هو العلاج الوقائي قبل الوقوع فيه، وهذا يتم بطريقتين: الأولى مساعدة المريض وأسرته على الاعتراف بالمرض النفسي وعدم الخوف من ذلك تحت ذريعة العار والخجل من أن يعرف الناس ويعايروهم به، لا سيما عندما يكون المريض امرأة. والطريقة الثانية للعلاج هي الإسراع في العلاج النفسي بشقية الدوائي (العلاج بالعقاقير الدوائية) أو العلاج بالجلسات الإرشادية، إلى أن يعود الشخص إلى حالته النفسية الطبيعية. وكذلك مساعدة الفرد المريض وأسرته اقتصاديا وإعادة تأهيله مهنيا وحياتيا من قبل الدولة والمؤسسات المجتمعية والمنظمات الإنسانية، حتى يعود الفرد نافعًا للمجتمع عمومًا، وللأسرة خصوصًا؛ وبذلك ستتوقف أو تقل حالات الانتحار التي تعد أسوأ نتيجة يصل إليها المريض، ولا يمكن تجنب آثارها إذا حدثت بالفعل.
ويطرح الدكتور العوبلي أيضا بعض المعالجات للوقاية من مشكلة الانتحار وتتمثل في التنشئة الأسرية المتوازنة وإيجاد القدوة داخل الأسرة، وإدماج الطفل بمجتمعه وعاداته وتقاليده الصحيحة، وتدريبه على الاعتماد على الذات وإكسابه المهارات اللازمة لذلك.
قنوات معالجة
كما لفت العوبلي إلى أهمية وجود تعليم متقدم يحقق متطلبات سوق العمل لتقليل البطالة، وكذلك التزام وسائل الإعلام بتوعية المجتمع بخطورة وسوء هذا السلوك دينيًا ومجتمعيًا وقانونيًا، وتفعيل قنوات المعالجات، وقيام الدولة بمؤسساتها المختلفة في التخفيف من معاناة الأفراد والأسر، وتحقيق بيئة آمنة للمجتمع، وسد الاحتياجات الأساسية للأفراد والأسر الفقيرة والمعدمة. كما يجب توسيع مجالات الصحة النفسية والأسرية، وتأهيل كوادرها للإسهام بمساعدة الأفراد في التخفيف من ضغوطات الحياة، وتنمية القدرات والإمكانيات للشباب خاصة في المجال التقني والمهني ومحاربة المخدرات وشبيهاتها، وشغل أوقات الشباب بما يحقق لهم الغايات والأهداف الحياتية الإيجابية، والتكثيف من عرض برامج الصحة النفسية.
بث روح الأمل
يشير الدكتور مقران إلى ضرورة تكامل جميع المؤسسات المجتمعية، ومضاعفة الجهود من أجل بناء شخصية الفرد المتصالحة مع نفسها ومع الآخرين والمتماسكة والناضجة وغير الهشة؛ وهذا يحتاج إلى تشجيع مستمر للأفراد وبث روح الأمل والتفاؤل في نفوسهم.
لا توجد إحصائيات دقيقة تحدد نسبة الانتحار، فيما يشير موقع منظمة الصحة العالمية إلى أن اليمن تحتل المركز الرابع عربيًا بالنسبة لعدد حالات الانتحار، لكن النسبة ليست دقيقة؛ لأن كثيرا من حالات الانتحار لا يُصرح عنها نتيجة الوصمة الاجتماعية، وغالبًا ما يعزى انتحار أحدهم إلى موت مفاجئ أو جلطة دماغية خوفاً من نظرة المجتمع.
تتشعب الأسباب الحقيقية التي تقف خلف الانتحار، لكن ما هو مؤكد ومُجمع عليه أن الأسباب الرئيسة وراء تزايد هذه الظاهرة مؤخرا هو تفشي البطالة وغلاء الأسعار والظرف الاقتصادي الصعب والاضطرابات النفسية الناجمة عن الحالات المرضية، أو بسبب النزاعات القائمة في البلد منذ ما يقرب من تسع سنوات. ولا سبيل إلى مواجهة هذا الداء المجتمعي القاتل سوى تكاتف الدولة والمجتمع؛ لإيجاد حلول وخطة واسعة ومكتملة تستوعب الظاهرة وتبحث عن حل تشارك فيه جميع القطاعات الحكومية والمدنية، ويخفف من وطأة تناميها، وينهي آثارها قبل أن تستفحل في أوساط المجتمع وعندها يصعب علاجها.
85% يرون أن استمرار الصراع هو المسبب الرئيس لانتشار ظاهرة الانتحار في اليمن
صوت الأمل – يمنى أحمد غالبًا ما تتسبب الصراعات والنزاعات المسلحة في بعض البلدان بحالة من ف…