الاكتئاب بوابة الانتحار

صوت الأمل – فتحية الهمداني

تتنوع الاضطرابات والمشكلات النفسية التي قد تصيب الإنسان، وقد يمثل الانتحار أقوى وأسوأ نتائج تلك المشكلات؛ لأنه يؤدى إلى نهاية حياة الفرد. وهنا يقوم الاكتئاب بدور كبير في انتشار ظاهرة الانتحار؛ لذا فإن الظاهرتين تشكلان أحد أهم المواضيع المتشابكة التي تتعلق بالصحة النفسية، الكنز الثمين لكل إنسان، ومن ثم يجب العناية المستمرة بها من خلال القيام بمحاولات ترفيهية مستمرة والاحتكاك المستمر بكل ما هو إيجابي وداعم للحياة الهادئة والمستقرة.

الانتحار ظاهرة تتعدى المسافات والحدود المادية أو الاجتماعية، فلا يوجد إطار زماني أو مكاني محدد أو مقصور على جنس واحد أو فئة عمرية واحدة، فهو هو كل الحالات الموتُ الذي ينتج، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، عن فعل إيجابي أو سلبي يقوم به الفرد بنفسه، وهو يعرف أن هذا الفعل يصل به إلى الموت.

وفي علم النفس، يعد الانتحار عملية اختيار الموت عندما يستطيع الشخص اختيار الحياة، وهو ناتج عن رفض معين للواقع أو حالة توتر شديدة. واجتماعيًا، الانتحار يمثل حالة من الهروب والانهزام الفردي من الحياة نحو الموت؛ فالفرد عندما يفقد الثقة في محيطه المجتمعي ويشعر بعدم قدرته على تحقيق أهدافه ويفقد انسجامه مع المجتمع ومع أفراده، يتجه إلى إيذاء نفسه والتخلص منها. إن الانتحار بوصفه ظاهرة اجتماعية يعدُّ تعديًا على القيم الاجتماعية المألوفة في المجتمعات، وهو مؤشر إلى وجود خلل يؤثر بطريقة سلبية على الفرد وتدفعه إلى اتخاذ قرار بالتخلص من حياته، والعمل على إيذاء ذاته بأبشع الطرق أو الوسائل.

وجدت العديد من الوجهات التفسيرية للانتحار، فمثلًا فسر علماء الاجتماع -وعلى رأسهم دور كايم- أن للانتحار أنواعًا متعددة فمنه الانتحار الإيثاري الذي يقوم به الفرد مدفوعًا بإخلاصه وولائه للمجتمع، ومثال هذا النوع ما كان يُمارس في اليابان ويسمى بـ”هاري كيري-Hara- Kiri”؛ حيث كان يقوم الفرد الذي يرتكب عملًا غير قانوني بقتل نفسه بالسيف إرضاءً للمجتمع. وهناك نوع آخر يسمى الانتحار الأناني؛ حيث يتجه الفرد إلى المبالغة في حب ذاته، وهناك الانتحار الذي ينطوي على التفكك الاجتماعي وينشأ عن اختلال النظام الاجتماعي.

أما علماء النفس -ومنهم سيمجوند فرويد- فيرون أن الكائن البشري يتقمص الشخص الذي يحبه بطريقة متناقضة وجدانياً (يحب ويكره)؛ فعند أوقات الإحباط يظهر الجانب العدواني من التناقض الوجداني ويوجهه ضد ذاته، فيكون الانتحار حينها تحولًا للطاقة العدوانية عن الشخص الذي تسبب في الإحباط متجها إلى معاقبة الذات، وهكذا فإن الشخص الذي يقوم بقتل نفسه إنما يقتل صورة الشخص الذي كان يكره أو يحبه. وقد أوضح بعضٌ من علماء هذا الاتجاه وجود عوامل مساعدة ومُهَيِّئة لذلك، منها الوقوع في اليأس، وخذلان الآخرين لهم وتوقفهم عن مد يد المساعدة والعون عند الظروف الصعبة كالمرض أو الأزمات النفسية، وغيرها من العوامل.

ومهما تعددت وجهات النظر العلمية في تفسير الانتحار كظاهرة نفسية أو اجتماعية فإنه لا يزال أحد أهم الأسباب الرئيسة لارتفاع الوفيات في العالم بحسب مؤشرات منظمة الصحة العالمية؛ فقد أوضحت المؤشرات للعام 2008 أن ما بين (20-60) مليون شخص يحاولون الانتحار سنوياً، وأن نحو مليون شخص ينجحون في ذلك في مختلف أنحاء العالم؛ حيث يتم تسجيل (3000) حالة وفاة يوميًا. ومقابل كل حالة انتحار هناك (20) محاولة انتحار فاشلة. وبحسب إحصائيات عام 2022، تُرصد (26) ألف حالة انتحار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي أنه من بين (100) ألف شخص يموت هناك خمسة أشخاص قاموا بالانتحار.

تُعدُّ الفئة العمرية بين (45-64) عامًا هي الأكثر تعرضاً للانتحار، ومؤشراته بين الذكور تفوق الإناث؛ حيث يزيد عدد الذكور الذين لقوا حتفهم بسبب الانتحار بأكثر من مرتين عن عدد الإناث، أي (12.6) من كل (100,000) ذكر مقارنة بـ(5.4) من كل (100,000) أنثى. وتعدّ معدلات الانتحار بين الرجال أعلى عمومًا في البلدان ذات الدخل المرتفع (16.5 من كل 100,000)، أما بالنسبة للإناث فتُسجّل أعلى معدلات الانتحار في البلدان ذات الدخل المتوسط (7.1 من كل 100,000). وهنا، قد لا يمكن تحديد العامل الأبرز لذلك؛ وهذا يعني أنه لا يرتبط بالجوانب المادية وحسب، بل إن للعوامل النفسية والاجتماعية دورًا كبيرًا في رغبة الفرد في ذلك. وقد أوضحت العديد من الدراسات أن الكثير من البشر ينتحرون بدافع نفسي لخسارة منصبٍ أو أموالٍ أو فقدان شخصٍ عزيز، أو التعرض لأزمة عاطفية أو للتنمر، وغيرها من المواقف التي تترك في النفس الكثير من الألم والأسى اللذين يسببان دخول الفرد في حالة من الاكتئاب.

إن الاكتئاب، بمختلف صوره ودرجاته، من أهم التشخيصات النفسية المرتبطة بالانتحار؛ فإحدى الدراسات أوضحت أن للاكتئاب دورًا في قيام الأفراد بالانتحار، وأن الشخص المكتئب هو شخص رافض للحياة، وأن من يعانون من الاكتئاب يكونون أكثر عرضة للانتحار، وأن حوالي 15% من المنتحرين كانوا يعانون من الاكتئاب الشديد، و80% كانوا يعانون من الاكتئاب بشكل عام، و15% من المنتحرين مدمنون، لا سيما أن الإدمان يطلق التثبيطات لدى المرضى المكتئبين ويدفعهم إلى إنهاء حياتهم. وفي نفس السياق، لا يمكن الجزم والتأكيد أن كل شخص مكتئب سينتحر؛ لأن الكثير من البحوث تبين عدم حدوث ذلك، ولكن الأغلب أن كل منتحر هو مصابٌ بالاكتئاب بالضرورة.

فما هو الاكتئاب؟ وما هي أعراضه؟ وما الذي يمكن القيام به للتخفيف من أثره في زيادة حالات الانتحار؟

قد يُخيلُ إلى القارئ أن الاكتئاب نوعٌ من الحزن الذي قد يمر به الشخص ليومٍ أو يومين، وقد يزول بعد مرور ساعات من حدوث موقف مؤثر. غير أن الاكتئاب أكثر من مجرد حزن عابر؛ فقد يصيب الإنسان اضطراب نفسي ناتج عن العديد من المؤثرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، أو حتى السياسية التي تكون أقوى من قدرة تحمل الشخص لأي نوع من أنواع الحزن أو الألم مما قد يدفعه إلى النظرة السلبية للأشياء من حوله، ونظرة تشاؤمية نحو المستقبل، وإدراك سلبي للذات وللعالم، ويؤثر على طريقة الشعور والتفكير والسلوك بطريقة سلبية؛ فقد يعاني الفرد من شعور فقد الإحساس بالحياة، وقلة رغبته في القيام بأي نشاط، مما قد يتسبب في العديد من المشاكل العاطفية والوظيفية والشخصية، وبذلك يعد الاكتئاب صورة من صور الموت على المستوى الانفعالي والنفسي.

 على مستوى العالم، يعاني من الاكتئاب نحو 280 مليون شخص؛ إذ يقدّر أنه يصيب 3.8% من الأشخاص في العالم، 5.0% منهم من البالغين و5.7% من الذين تزيد أعمارهم عن 60 سنة. وتبرز أعراضه في الشعور بالحزن والغم مصحوبًا بانخفاض في الفاعلية، وارتفاع في التشاؤم وفقدان الاهتمام واللامبالاة والشعور بالفشل، وعدم بالرضا، والرغبة في إيذاء المرء لنفسه، والتردد وعدم البت في الأمور، والإرهاق، وفقدان الشهية، واحتقار الذات، وبطء الاستجابة، وعدم القدرة على بذل أي جهد، وكثرة الهموم، والقلق، والغرق في الأحزان والخواطر القاتمة، والميل إلى العزلة، والشعور بالتقصير والإهمال، واللوم الدائم والمستمر للذات بأنها ارتكبت أخطاءً لا تغتفر، وشعوره بأنه يعاني من أوجاع بدنية غير موجودة أصلا. وتتشابه تلك الأعراض لدى الكثير من الفئات العمرية التي قد تصاب بالاكتئاب، وقد تصل تلك الأعراض إلى درجة تدفع المكتئب إلى الانتحار.

وفي الغالب، تنشأ العوامل المؤدية إلى الاكتئاب من عاملين أساسيين، الأول: الاستعداد الوراثي، ويرتبط مباشرة بوجود العامل الثاني المتمثل في وقوع صدمة نفسية عنيفة ناجمة عن مشاكل عائلية أو عاطفية أو وظيفية أو اجتماعية. وتكاتف هذين العاملَان يساهم في ارتفاع معدلات الحزن أو الكآبة والانعزال عن الآخرين، والانغلاق في بوتقة مليئة بالذكريات المحزنة، ويجعل الكثير من المكتئبين يفكرون بالانتحار.

فما الذي يجب القيام به لعدم الوصول إلى هذه المرحلة الدافعة إلى الانتحار؟

إن المعالجات التي ستطرح في هذا المقال هي معالجات لمنع وصول الفرد إلى مرحلة التفكير في الانتحار؛ فالفرد عندما يعطي ذاته نوعًا من الاهتمام ويحرص على صحته النفسية عن طريق المعالجات الروحية والنفسية، فإنه سيمنح ذاته الكثير من الراحة النفسية، بالقيام بتحديد أوقات للخلو إلى ذاته، ومراجعة ما قد تم من أحداث وردود فعل، وغيرها من الطرق التي تقدم المعالجات السريعة، وإزالة التراكمات السلبية التي تؤثر على النفس. كما أن الاختلاط بالآخرين من ذوي الطاقات الإيجابية الذين يساعدون على طرح الحلول للمشاكل أو الصعوبات يساهم في تجديد وتغذية ذات الإنسان بكل ما هو إيجابي؛ بحيث يتم الاستفادة من طرق تفكيرهم ونظرتهم للحياة. إن كل ما سبق سيترك أثرًا لدى الفرد، وسينعكس في سلوكياته وطرق تفكيره ونظرته إلى الحياة بما فيها من أحداث وأفراد وهموم وأمور أخرى تعكر صفو الحياة، وأن الحرص على زيارة بعض المراكز الإرشادية النفسية لن يكون إلا مؤثرًا إيجابيًا لمعالجة الأذى الذي يصيب الفرد، وعدم الوقوف عند هذه النقطة والنظر إليها من زاوية ضيقة؛ فالنفس الإنسانية أرق وأرقى مما نتخيل؛ لذا علينا ألا نستهين بأي حل يمكن أن يؤثر بطريقة إيجابية على صحتنا النفسية.

الرجاء تسجيل الدخول للتعليق.

‫شاهد أيضًا‬

85% يرون أن استمرار الصراع هو المسبب الرئيس لانتشار ظاهرة الانتحار في اليمن

صوت الأمل – يمنى أحمد غالبًا ما تتسبب الصراعات والنزاعات المسلحة في بعض البلدان بحالة من ف…