النظام القبلي تاريخ عريق وحضور واسع: دور الأعراف القبلية في حلِّ النزاعات، أهميتها وتأثيرها في المجتمع، وتعارضها مــــــــع القـــــــوانين
صوت الأمل – محمد عبد العزيز
النظام القبلي هو نظام متكامل قائم بحد ذاته وهو تشريع له قواعد لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ويمتاز النظام القبلي في اليمن بانتشاره وقوة تأثيره بين الناس وله ضوابط وروادع كفيلة بأن تجعل المجتمع القبلي متكامل البناء قائم على لوائح وقوانين تسمى الأعراف القبلية.
من ضمن اهم مميزات النظام القبلي وجود نظام قضائي خاص بالقبيلة تحكمه الأعراف والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال ويستمد احكامه -في مجملها- من التشريع الإسلامي.
يقول الشيخ علي سعد نهشل: “إن النظام القبلي في اليمن يضرب بجذوره في أعماق التاريخ اليمني الممتد لآلاف السنين وان الأعراف القبيلة شكلت نظام حكم متكامل وشامل لمختلف نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى السياسية والعسكرية.
وعن الأحكام العرفية القبلية تستخدم في حل المشاكل بين الناس وفض النزاعات وتحل محل القضاء الرسمي في فترات طويلة على مدى التاريخ اليمني، وفي الوقت الحالي ما زالت هذه الاحكام العرفية هي السائدة بين الناس وانها تتميز بنظام هيكلي مناسب لتحقيق العدالة.
موضحا بالقول: توجد في القضاء الرسمي مرحلتان لاستئناف الأحكام ، وتوجد في التشريع العرفي العام أربع مراحل استئنافات عرفية، تبدأ هذه المراحل باستئناف حكم المحكِّم أو المحكّمين لدى “المراغة القصرة» (وهو أكثر رجل معرفة بالتشريعات القبلية في قسم أو عزلة من القبيلة) وعند عدم اقتناع أي من الأطراف بالحكم في هذه المرحلة ينتقل الحكم إلى يد “المراغة الغصاب” (وهو مراغة القبيلة العام) فاذا طعن في الحكم ينقل مباشرة إلى يد “المراغة غصاب الغصاب” (وهو مراغة الداعي الكبير مثل مراغة بكيل أو حاشد أو مذحج) وهناك مراغة عام لكل القبائل يُنتَخب من كل القبائل يسمى “مراغة النقض والإقرار” (وهو أعلى درجة الاستئناف العرفي) ويكون حكمه نهائيًّا وواجب التنفيذ.
ويضيف: «لأطراف النزاع حرية اللجوء الى الاحكام العرفية للفصل في نزاعاتهم وليس للقبيلة حق ارغام الناس على التقاضي وفقاً للأعراف القبلية، وللمتخاصمين الحق في اللجوء الى القضاء الرسمي وعدم الاحتكام للأعراف القبلية، لكن من ارتضى القضاء العرفي للفصل في قضيته فهو ملزم بإكمال التقاضي عبر مراحل القضاء العرفي ومن طلب فصل قضيته عبر القضاء الرسمي فله الحق في ذلك ولا يحق لأحد إرغامه على اختيار القضاء العرفي للفصل في فضيته.
من ناحيته يؤكد الشيخ زيد الجمرة أن القبيلة في اليمن نظام متكامل لا عصبية فيه ولا طائفية ولا إخلال بمبدأ المساواة، وأن القبيلة قادرة على الانخراط في الدولة المدنية الحديثة في إطار الإثراء وليس الاختلاف، بل وأن القبيلة في اليمن تعد مكوناً أساسياً من مكونات الدولة الحديثة، وأن القضاء القبلي مساند للقضاء الرسمي ومساعد له ويخفف العبء عنه.
أما أهم ما يميز القضاء القبَلي في رأي الشيخ الجمرة فهو سرعة البت في القضايا والفصل فيها وبأقل التكاليف. بالإضافة إلى أن الأحكام القبلية غالباً ما تكون مُرْضِيَةٍ لجميع الأطراف، وتضمن إيصال الحق إلى أهله، فالقيم والمبادئ القبلية -مثل نصرة المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيم الشهامة ونصرة المرأة وغيرها- تضمن لأبناء المجتمع حقوقهم الإنسانية الأساسية.
يقول الشيخ محمد علي صياد (رئيس مجلس القضاء القبلي اليمني): «الأعراف القبلية والتحكيم القبلي يعدُّ جهة غير إلزامية، فلا يُلجأ إليها إلا عندما تخرج الأمور عن سيطرة الجهات المختصة، وفي بعض القضايا يتراضى المتخاصمون على محكمين من المشايخ في قضايا كبيرة عجزت عنها المحاكم، فالعرف القبلي يقوم بحل كثير من القضايا، وتكون أحكامه بحسب الاشتراط والتحكيم. والنوع الأول من التحكيم القبلي هو التحكيم المطلق وفيه لا يجوز للمتخاصمين أن يخالفوا الأحكام الصادرة عن المشايخ أو يخرجوا عنها، ويكونون ملتزمين بتنفيذها وليس لهم الحق في استئنافها. والنوع الثاني من التحكيم القبلي يشترط فيه المتخاصمون أن يكون لهم حق استئناف الأحكام الصادرة عن المشايخ عند «المنهى» (المنهى اسم يطلق على فئة معينة من المشايخ ولكن بدرجة أكبر ويعدُّ مرجعًا ويسمى المراغة في الحكم القبلي)، وفي هذه الحالة يخضع الحكم الصادر عن المشايخ لموافقة المنهى أو لتعديله في الحكم».
أما فيما يخص حقوق المتخاصمين وصلاحيات المشايخ يقول الشيخ صياد: “العرف القبلي يمنح الخصوم حق اختيار المرجع الذي يثقون في الرجوع إليه بعد الحكم، فهو يمنحهم الضمانات المرضية للجميع وهذا يكفل بلوغ القدر الأوفر من العدالة ، كما أن الأدلة والبراهين في العرف القبلي تماثل القضاء تمامًا غير أنها في العرف القبلي أكثر تشديدًا فهناك في بعض القضايا ما يستلزم أكثر من يمين المنكر حيث يتطلب في بعض القضايا التي لا تهم شخصًا بعينه وإنما تهم قبيلة كاملة، يتطلب خمسة أشخاص يحلفون أو حتى عشرة أو اثنين وعشرين أو أربعة وأربعين، وتكون الأخيرة في حالة القتل حيث إن جسامة الجريمة تقتضي مزيدًا من التحري ، أما في حالة السرقة فتتطلب اثنين وعشرين حلافًا والعشرة والخمسة فيما دون ذلك”.
ولهذا في ظل هذه الاحتياطيات والإجراءات المشددة ستُضْبط الجريمة ولا نُخْطأُ في الاتهام ولا تثبت الحادثة إلا إذا كانت في غاية الوضوح.
ويوكِّد الصحفي حميد دبوان أن الأعراف والتقاليد القبلية تعبِّر عن أصالة الشعب اليمني الزاخر بهذا التراث الكفيل بأن ينعم الناس فيه بالأمن والاستقرار، والتعايش. مضيفاً انه عندما حصلت محاولات لتحجيم دور القبيلة والحد من انتشار اعرافها وتقاليدها، برزت كثير من المشاكل والسلوكيات والظواهر التي لم تكن موجودة في اجيالنا السابقة، ولا يمكن أن تصدر من يمني يحمل هذا الإرث الحضاري الذي يشرع كل ما هو حميد ويدعو اليه ويجرم كل ما يعيب او يشين الاخلاق الإنسانية السامية.
ووفقاً للشيخ زيد الجمرة – الذي يحضر حالياً رسالة دكتوراه في الإدارة العامة- فإن النظام القبَلي اليمني يشمل أيضا مجالسَ للحكم شبيهة بتلك الموجودة في الدولة المؤسسية مثل «المسراخ”، وهو ميدان عام لتجمع أبناء القبيلة لمناقشة القضايا التي تهم القبيلة بشكل عام أو المشاكل التي تواجهها، ويشبه مجلس الشورى في الدولة.
أفاد الشيخ الجمرة -في لقاء خاص بـ “صوت الأمل»- أن نظام الحكم القبلي قائم على الشورى، وأنه يتم اختيار «الشيخ» عن طريق الانتخابات عبر ما يسمى بـ “قاعدة المشيخ”؛ حيث يوقع أبناء القبيلة على عريضة تثبت موافقتهم على اختيار المرشح لمنصب “الشيخ”، وتكون هذه الأوراق كأنها أوراق التصويت وسجل الانتخابات في نظام الدولة.
ويوضح الجمرة أن انتخاب «الشيخ» لا يكون بالوراثة وأن الابن لا يكون وريثاً لوالده في منصب «الشيخ» إلا بتوفر شرطين أساسيين، الأول: الكفاءة والفعالية، والثاني: موافقة أبناء القبيلة عبر التوقيع على «قاعدة المشيخ”، وفي حالات كثيرة يتم اختيار شيخ آخر ليس من أبناء الشيخ السابق، ومن ثم فالشرعية في النظام القبلي هي بيد أبناء القبيلة كما أن الشرعية في النظام الديمقراطي هي بيد الشعب.
يرى صلاح الخولاني (وكيل شريعة) أن قرار الذهاب إلى التحكيم القبلي أو القضاء الرسمي يتوقف على مكانة الشخص ومستواه الاجتماعي ومحيطه الاجتماعي حيث إن المواطن المنتمي إلى قبيلة وله من يسانده من أبناء قبيلته يفضل اللجوء إلى التحكيم القبلي لأنه يعلم هنا أن المسؤولية ستكون تضامنية وأنه سيشاركه أبناء قبيلته في حالة ما إذا كان الحكم ضده سواء في تنفيذ الحكم أم في مصاريف التحكيم نفسها عن طريق ما يسمى بالغرم.
لكن المواطن المتمدن الذي لم يعد يعتمد على قبيلته أو أنه غير منتمٍ إلى قبيله فإنه بالتأكيد سيلجأ إلى القضاء الرسمي لأنه ربما لا تتوفر له بعض متطلبات التحكيم القبلي مثل طرح أسلحة أو جنابي كضمانة لتنفيذ الأحكام القضائية.
يقول وليد السدرة: «إن التحكيم القبلي أسهم في الماضي ويسهم اليوم ـ إلى حدٍّ كبيرـ في حلِّ كثير من القضايا العالقة بين المواطنين وأنه الأكثر تأثيرًا بسبب طول فترة التقاضي في المحاكم الرسمية التي تصل إلى سنوات طويلة في قضايا يمكن أن يحسمها التحكيم القبلي في فترة وجيزة».
مضيفاً: “إن التحكيم القبلي كان في الماضي هو السائد بين الناس لأن المشايخ كانوا يبادرون إلى الصلح بين الناس طوعيَّة وبدون أتعاب مالية أو أتعاب رمزية لا تكلف الناس لكن الآن أصبح اللجوء إلى التحكيم القبلي يتطلب الكثير من المتطلبات المادية كأجور المشايخ وتكاليف الطروحات وأتعاب الوكلاء وغيره وأيضًا ما يعرف بالطروحات حيث يطلب المشايخ من المتخاصمين طرح أسلحة تكلف مبالغ كثيرة وسيارات وما إلى ذلك”.
فيما يرى أحمد صالح الحاشدي يقول: «إن العرف القبلي هو الأفضل في قضايا الأحوال الشخصية لأن التحكيم القبلي يلزم أهالي الزوجين بأعراف قبلية لمصلحة الأسرة ولما فيه مصلحة الزوجين بدون فروقات وأن عامل الضغوط القبلية تلزم الزوجين وأهاليهم بالالتزام بالاتفاق خوفًا من العيب القبلي أو الملامة من الناس والمحكمين».
فيما يرى الشيخ صالح مجمل روضان -رئيس المجلس الأعلى للعرف القبلي اليمني- أن النظام القبلي حريصٌ على تحقيق مبدأ العدالة من خلال الأعراف القبلية، مشيراً إلى أن النظام القبلي هو رديف للدولة على مدى التاريخ اليمني منذ الدولة السبئية القديمة حتى اليوم، نافياً وجود أي تناقض بين القبيلة والدولة.
وأضاف أن إجراءات التقاضي القبلي تمر بعدة مراحل لتضمن تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة في الأحكام، وبما يحقق الهدف الأسمى المتمثل في الحفاظ على الأمن والسلِم المجتمعي والتآخي بين الناس وإنصاف المظلوم والأخذ على يد الظالم ولو كان صاحب جاه أو مال أو سلطة. ودعا الشيخ روضان إلى تنفيذ أنشطة مشتركة مع منظمات المجتمع المدني بما يعزز انخراط القبيلة اليمنية في مكونات المجتمع المدني الحديث.
ويذهب الشيخ صالح حميان ليؤكد ما قالته سامية بخصوص قضايا المرأة بالقول: إن الأعراف القبلية تضمن للمرأة والطفل حقوقاً مميزة، فكما هو محرم دولياً خلال الحروب استهداف المرأة والطفل والمدنيين فإن الأعراف القبلية أيضا تحرم استهداف هذه الفئات وتضع لمن يخالف ذلك أحكاماً مشددة وروادعَ وتعزيراتٍ، مثل الحكم المسمى بـ “المحدعش” الذي يعني أحدَ عشرَ ضعف العقوبة المعروفة في غير هذه الفئات.
ويضيف أنه الى جانب هذه الفئات هناك أيضا ما يسمى بـ»الهَجَر”، وهم الناس الذين يقومون بالوساطة بين الأطراف المتنازعة أو من يقومون بانتشال الجثث أو إسعاف المصابين أثناء الحروب أو من هم مكلفين بجمع الدلائل والشواهد في أماكن النزاع. ويُعَدُّ “الهَجَر” محايدين ويحظون باحترام جميع الأطراف، ومن هنا فإنهم يقومون بالمهام التي تقوم بها المنظمات الإنسانية مثل الهلال الأحمر والصليب الأحمر الدولي والمنظمات الخيرية في هذه الأيام.
سامية صالح (ناشطة حقوقية) تؤكد ان النظام القبلي قد وضع مميزات هامة للمرأة في كثير من تشريعاته واعرافه وان هذه الأعراف القبلية اكرمت المرأة اليمنية وجعلت لها حقوق خاصة ومميزات ليست ممنوحة للرجل في القبيلة.
مضيفة ان المرأة في النظام القبلي تعتبر مسئولية المجتمع القروي والعرف القبلي يلزم الجميع بالنظر الى المرأة كونها محل تقدير واحترام كافة افراد المجتمع القبلي، يتسابقون في نجدتها ويتفانون في تسهيل اعمالها ونصرتها عند الحاجة، ومن يتجاوز تلك الاخلاق او الأعراف فإن الجميع يقفون في وجهه وتفرض الأعراف القبلية احكاما مشددة عليه.
وتقول: «إنه في الفترة الأخيرة بدأت المرأة بخاصة في المدن اليمنية تلجأ إلى المحاكم الرسمية التابعة للدولة نظرًا لعوامل عديدة منها انحسار دور القبيلة ومفاهيمها في المدن وتزايد عدد المحاميات الإناث اللاتي تلجأ إليهن النساء للترافع عنهن أمام القضاء الرسمي».
مصطلحات الأعراف القبلية
العرف هو ما تعارف عليه الناس واستحسنوه وتراضوا عليه، والعرف إذا كان موافقًا للعقل والدين ومصالح الناس فأنه يتسم بالإجماع من أهل الاختصاص.
الإخاء: يعبِّر عن انتماء شخص ما إلى قبيلة معينة له حقوق وعليه واجبات معينة، وهو ثابت بين أبناء القبيلة الواحدة، طارئ فيما يتعلق بمن أراد أن يلجأ إليهم من أبناء قبيلة أخرى نتيجة لخوف أو ظلم أو إيذاء أو انعدام من ينصره، وهو يشابه الأحلاف بين القبائل العربية فالإخاء بين الفرد والقبيلة والحلف بين قبيلتين مختلفتين، وهو لازم من لوازم القرابة بين القبائل التي تنحدر إلى جد واحد، لكن القبيلة لا تقبل مؤاخاة المخطئ بل تقبل إخاءه (له وعليه) فلا يمكن لأحد أن يطلب الإخاء هربًا من عقاب أو صاحب باطل.
العيب: وهو القصد في تعمد الخطأ، ويعبَّر عنه أحيانًا بالغدر، وهو محظور ومجرم في كل الأعراف والديانات والقبيلة تربي أبناءها على عدم اقتراف العيب وغلظت في عقوبته، ويعدُّ كل ما نهى عنه الشارع عيبًا وكل منكرٍ عيبًا مع تفاوت في درجته. فمثلا في قضايا القتل، فالعرف القبلي غلظ في ديات القتل ووصف ملابسات القتل بالعيب مثل إخفاء الجثة أو التمثيل بها أو قتل الأخ الوافد لمن آخى عنده الذي نصره واحتضنه، وهنا نرى العرف عادلًا ورادعًا لمثل هذه الممارسات التي أصبحت نادرة الحدوث لجسامة عقوبتها.
الأماكن المهجرة: وهي الأماكن التي يحرم فيها القتال أو الاعتداء نتيجة لاكتظاظها بالناس ولكون الاعتداء فيها قد يقود إلى فتنة كبرى مثل الأسواق والطرق العامة والمساجد والساحات العامة، والمحلات التجارية.
والعلق العرفية هي العلاقات والروابط الاجتماعية التي بموجبها أصبح الاعتداء من صاحبها يستحق العقوبة المقررة عرفيًا كونه لم يحترم هذه العلاقة.
الغرم هو مورد اقتصادي تسد به القبيلة نفقات القضايا العامة وتدافع عن مقدرات القبيلة كما أنه بمنزلة التأمين أو التكافل وهو يتناسب مع مصرف الغارمين في الزكاة.
الطروح هي الضمانات التي تجبر المتخاصمين على تنفيذ الأحكام القبيلة والطروح تكون إما جنابي (وهو السلاح الأبيض)
81% من المواطنين يؤكدون: تأثير النظام القبلي على الحياة السياسية في اليمن قوياً ومؤثراً
أكد ما يقارب 60% من المواطنين اليمنيين، أن تأثير النظام القبلي على الحياة العامة في البلد …