المنظمات تتقمص دور الجهات المسؤولة في إحياء التراث الغنائي اليمني
صوت الأمل – أحمد باجعيم
توارثت الأجيال ألحانًا وأنغامًا تعبّر عن تاريخ اليمن الغني وثقافته العريقة، التي امتاز بها رواد الفن اليمني من كتاب وشعراء وملحنين ومُؤَدِّين وموسيقيين، جعلوا من التراث الغنائي موروثًا ثقافيًّا لا يضاهيه أحد في الإبداع والإتقان في الأداء، ومن أجل المحافظة على هذا التراث الثقافي القيّم وإحيائه، تعمل منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية بجدية واجتهاد لإحياء التراث الغنائي اليمني، والحفاظ عليه من التلاشي والاندثار أو التعدي والسطو نظرًا لأصالته وجاذبيته العريقة.
وتعدُّ المنظمات والمؤسسات المحلية محورًا رئيسيًّا في توثيق التراث الغنائي اليمني ونشره؛ إذ تقوم بتنظيم المهرجانات الثقافية والحفلات الفنية سواء محليًّا أو خارجيًّا، وتوثيق الأعمال الفنية القديمة، وتعزيز الإبداع الجديد في مجال الموسيقى والغناء، وبفضل تلك الجهود يستمر التراث الغنائي اليمني في الازدهار والانتشار، محافظًا على أصالته التي تجذب الجمهور من مختلف أنحاء العالم.
دور المؤسسات المحلية
قالت رئيسة مؤسسة حضرموت للثقافة شروق الرمادي: “إنّ المؤسسة تعمل في ثلاثة مجالات أساسية وأحدها الموسيقى؛ إذ تسعى المؤسسة إلى التأهيل والتدريب والإنتاج والعروض، وتتمثل أبرز مشاريع المؤسسة في الموسيقى مشروع السمفونيات التراثية، التي جابت العديد من الدول حول العالم”.
وأشارت إلى أنّ المشروع بدأ من ماليزيا، إلى دار الأوبرا المصرية في القاهرة، وصولًا إلى أعرق مسارح باريس، وأخيرًا في الكويت؛ إذ عمل المشروع على ربط التراث الموسيقي اليمني، وتقديمه بطريقة عالمية، عززت في نشر الموروث بطريقة أسرع وأكثر.
ومن جانبه أشار رئيس مؤسسة مدارات محمد باوزير إلى أنّ المؤسسة تلعب دورًا محوريًّا ومتناميًا في دعم الفن الموسيقي، وذلك من خلال تنفيذ مشاريع رائدة، مثل “الموسيقى تعود 1″ في مدينة المكلا، و”الموسيقى تعود 2” في مديرية سيئون، وتلك المشاريع التي صُمِّمت بعناية لم تقتصر على تدريب الشباب على الأداء الموسيقي وقراءة النوتات فحسب، بل استهدفت أيضًا إحياء الثقافة الموسيقية، وتعزيز التراث الفني المحلي، كما ساعدت في تقريب المسافة بين الموسيقيين الشباب والمعايير العالمية لصناعة الموسيقى، ممّا أسهم في رفع مستواهم المهني، وتوفير فرص عمل جديدة ضمن الاقتصاد الإبداعي المحلي.
وأردف قائلًا: “ينبثق دور (مدارات) من استشعارها لمكانة حضرموت في القرن الماضي كمركز إقليمي للفن وللفنانين؛ إذ نشط فيها الحراك الثقافي عبر المعاهد ومراكز الفنون والمسارح ودور السينما، وكان للفن والفنانين قيمة كبيرة في أوساط المجتمع؛ لأنّ ثقل حضرموت الحضاري والثقافي كان يقارب ثقل مدينة عدن في ذلك الوقت”.
وأشار إلى أنّ المشروع حقّق استدامة عبر توسعة تيارات توليد الدخل للمشاركين بعد انتهائها؛ إذ زادت طلبات الأعمال لديهم، سواء تسجيل مقطوعات أو العزف في فعاليات موسيقية، وجعل المشروعُ الموسيقيينَ أكثر تميزًا واحترامًا في مجتمعاتهم، وقام العديد من الخريجين من المشروعين بتدريب أكثر من (80) عازفًا مبتدئًا على أساسيات قراءة النوتة والعزف، عبر دورات موسيقية لمؤسسات ثقافية أخرى أو بشكل شخصي.
وأوضح باوزير أنّ مؤسسة مدارات حققت نجاحًا كبيرًا على عدة مستويات في سبيل إحياء التراث الفني بشكل عام، وكان للمؤسسة تأثير كبير على المشهد الموسيقي في حضرموت، بدءًا بكونه أول تدريب أوركسترالي مهيكل أكاديميًّا بالمحافظة منذ إغلاق المعهد الفني الوحيد في التسعينيات، ومن خلال تلك المشاريع ساعدت المؤسسة إلى جانب إحياء التراث الفني، على بناء تجارب الفنانين بالأداء الموسيقي الحي، وقامت بتقديم المواهب الجديدة للجمهور، وتعزيز الوعي الثقافي والفني في المجتمع.
“مؤسسة البيت اليمني للموسيقى والفنون”، تأسست في 2007م، وتهدف المؤسسة إلى الحفاظ على الموروث الفني والثقافي اليمني، وتوثيق الأغاني الشعبية والكلاسيكية، والحفاظ عليها من التعدي والاندثار، وإعادة إشهارها، بالإضافة إلى إحياء ألحان المواويل والزوامل والأهازيج والأغاني التي تعنى بالحرفيين والمزارعين، وكذلك أغاني الأطفال المرتبطة بالبيئة اليمنية القديمة، ودعم الموهوبين في المجال الفني.
كما أحيت مؤسسة البيت اليمني بمناسبة الذكرى “الخامسة” لرحيل الفنان الكبير “أبو بكر سالم بالفقيه” فعالية استعرضت أهم محطات الفنان في ديسمبر 2022م، وجاءت الفعالية تحت عنوان “أنت ولا أنا”، ووزّعت قصاصات لمفردات متنوعة من أغاني الفنان بالفقيه ورفيق دربه الشاعر الكبير حسين أبو بكر المحضار، وتعدّ هذه الفعالية واحدة من العديد من الفعاليات التي يقيمها “البيت اليمني” لإحياء التراث الغنائي، وإعادته للواجهة من جديد.
أهم الأنشطة
أضافت الرمادي: “في مشروع السمفونيات التراثية الأخيرة في حفلة الكويت أُدخلتِ الأغنية على الموسيقى التراثية؛ إذ أدّى الفنان الكبير عبود خواجة وبقيادة المايسترو محمد القحوم أهمَّ الأغاني للفنان الراحل كرامة مرسال، التي أعاد تجديد لحنها القحوم”.
وأوضحت أنّ مؤسسة حضرموت للثقافة مرَّ على تأسيسها نحو عامين وكانت هذه أبرز مشاريعها ونتائجها في إحياء التراث الغنائي والموسيقي اليمني، كما أنّها تعمل بخطوات جادة سبقت عمرها التأسيسي، وفي القادم ستكون مشاريعها بالمجال الفن التراثي أكبر وأشمل.
وأشار باوزير إلى أنّ مشروع “الموسيقى تعود 1” قدّمَ تدريبًا لمدة ثلاثة أشهر بقيادة مدربين محترفين، مثل هيثم الحضرمي والمايسترو أحمد الأحمدي لـ(23) عازفًا من مديريات ساحل حضرموت، وفي نهاية هذا المشروع التدريبي، أقيم حفل أوركسترالي لأول مرة منذ أكثر من (27) عامًا في حضرموت، عُزفت فيه مقطوعات عربية وغربية.
في عام 2022م قدّمت مؤسسة حضرموت للثقافة، وبتنفيذ مؤسسة مدارات الثقافية، مشروع “الموسيقى تعود 2” الذي استهدف تدريب (30) موسيقيًا من حضرموت الوادي والصحراء على (قراءة النوتة- تقنيات العزف على الآلات- والعزف الجماعي)، كما قدّم المشروع تدريبًا لمدة أربعة أشهر، قُسّم إلى ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: قراءة النوتة الموسيقية بقيادة الموسيقار طارق باحشوان، والمرحلة الثانية: تكنيك الآلة بقيادة كل من عبداللاه بارجاء في آلة الكمان، والعازف علي الأحمدي في آلة العود، والعازف علي السقاف في آلة الأورج، والمرحلة الثالثة: العزف الجماعي بقيادة المايسترو أحمد الأحمدي وهيثم الحضرمي، وقد اختتم المشروع بعرض حي لمجموعة من المقطوعات العربية والغربية والمحلية (قديمة ومعاصرة) من مختلف الألوان الموسيقية. حسبما ذكر محمد باوزير.
وأوضح رئيس مؤسسة مدارات الثقافية باوزير أنّ مؤسسة حضرموت للثقافة قدّمت عام 2022م، وبتنفيذ من (مدارات)، حفلة “ليالي حضرمية” التي أحياها (28) عازفًا من حضرموت وعدن بقيادة العازف سمير كاعش بالمكلا، وعُزفت في الحفل معزوفات لأعمال الفنان الراحل أبو بكر سالم بلفقيه، وهي: “شلون حال الربع” و “حبي لها” و “يا نواخذه با معاكم” و”ناديت كمْ نادي” وبعض من الألحان الهندية، وهي: “نالت على يدها” و “يا خليل سلام” و “إن جاءكم يشكي” و”بين المحبين”، واختتم الحفل “بميدلي” حضرمي مكون من عشر معزوفات لأشهر الأغاني الحضرمية.
وتابع باوزير: “أنّ مدارات أقامت جلسات نقاشية حول الموسيقى، ومنها الصالون الثقافي (روحانيات) الذي هدف إلى التعريف بالدلالات اللغوية لأبرز الموشحات الدينية في حضرموت، والمقامات الموسيقية التي نُظمت عليها، كما تخلّل الصالون وصلات لثلاث موشحات دينية قدمتها مجموعة المودة للإنشاد وإحياء التراث، تلتها جلسة نقاشية أخرى حول (مدرسة الموسيقى) والتعليم الموسيقي في حضرموت، التي استضافت فيها (طارق باحشوان) مدير معهد الفنون الجميلة سابقًا، والمايسترو (أحمد الأحمدي) رئيس قسم الموسيقى بمكتب وزارة الثقافة بساحل حضرموت”.
التحديات
الرمادي أوضحت أنّ مؤسسة حضرموت للثقافة تعدُّ جزءًا من قطاع المجتمع المدني، ومساندة لدور الدولة، ولكن في ظل غياب مقومات الدولة ودورها في القطاع الثقافي تواجه المؤسسة تحديات في جميع النواحي سواء العامل الاقتصادي أو المجتمعي أو التدريب والتأهيل وغيرها، ومع هذا تحاول المؤسسة تخطي هذه التحديات، إلّا أنّ الفراغ الحكومي المتعلق بوزارة الثقافة يعدُّ التحدي الأبرز أمام المؤسسات العاملة بهذا المجال في اليمن.
كما عدّد رئيس مؤسسة (مدارات) محمد باوزير بعض الصعوبات والتحديات التي تقف عائقًا أمام المؤسسة أو جميع المؤسسات العاملة بهذا الجانب، ولعل أهمها، صعوبات الحصول على التمويل المناسب والمستمر لدعم المشروعات الثقافية التعليمية؛ إذ إنّ أغلب التمويل الموجه للثقافة ليس من أولوياته التعليم الموسيقي، وقلة الوعي الثقافي حول أهمية الفن الموسيقي هو معوق آخر، وبعض القيود الاجتماعية والثقافية التي تؤثر على مشاركة بعض الأفراد خصوصًا الفتيات في هذه البرامج الفنية.
التوصيات
وصفت شروق الرمادي بلادنا بأنّها أرض خصبة ومليئة بالكثير من الملامح الثقافية والتراثية والفنون المتعددة، لهذا يتطلب عدم استصغار حجم الفنون وتأثيرها على المجتمع؛ كونها بُنيت عليها الكثير من العادات والتقاليد، كذلك عدم النظر للثقافة بشكل عام كنوع من الترف والرخاء المعيشي، والمطالبة بتفعيل دور الدولة بهذا الجانب، وتطوير عمليات حفظ التراث الثقافي بصورة عامة، ومنها التراث الغنائي الذي تزخر به اليمن، نظرًا لكثرة الفنانين والملحنين والشعراء والموسيقيين الكبار، ليس على مستوى الوطن فحسب بل على مستوى العالم العربي أجمع.
باوزير ذكر بعض التوصيات لتحسين دور المؤسسات في تعزيز الفن الموسيقي، عبر زيادة التمويل والدعم للبرامج الموسيقية بعد معرفة الاحتياجات والأولويات في المجال؛ إذ تستهدف التدخلات تمكين المشاركين من تعليم المزيد من الموسيقيين لزيادة فرص تحسين مستواهم المعيشي بعد انتهائها، بالإضافة إلى توفير المزيد من فرص التعليم والأداء للشباب، وتشجيع التعاون بين المؤسسات الثقافية حتى تتمكن من القيام بمهامها الجليلة في ظل تقاعس الدور الحكومي أو غيابه، وبالشكل المأمول والمنتظر؛ للرفع من جودة العمل التراثي الكبير الذي تفتخر به اليمن.
وأضاف رئيس (مدارات): “أهمية تعزيز الوعي الثقافي وتقدير الموسيقى كعنصر حيوي في التراث والهوية الثقافي، وكذا تحسين قدرات المبادرات والمؤسسة الثقافية الناشئة لإدارة الدعم المالي الصغير وتطورها للحصول على التمويل وإدارة المشاريع، كما أنّ مؤسسة مدارات، وعبر مركز المكلا الإبداعي، مستعدة لتقديم الدعم التقني والتدريبات والإرشاد لجميع المبادرات والمؤسسات الثقافية، سواء في محافظة حضرموت أو اليمن عمومًا في مجالات جلب التمويل وإدارة المشاريع”.
إنّ للمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني المحلية دورًا لا يمكن إهماله في إحياء التراث الغنائي اليمني، كما أنّ جهودهم المستمرة في دعم الفنانين والموسيقيين، وتنظيم الفعاليات الثقافية، له أثر كبير في الحفاظ على التراث الغنائي الثمين وتجديده عبر الأجيال، لهذا وجب على الجهات المعنية كافة العمل معًا بروح الشراكة لتعزيز التراث الغنائي اليمني وإعادة إحيائه، وضمان استمراريته؛ كون النجاح في هذا المجال سيعزز الهوية الثقافية للوطن، ويسهم في بناء مجتمع أكثر ترابطًا وتفاعلًا.
73.2% من المشاركين يعتقدون أن التراث الغنائي في اليمن يعكس الهوية الثقافية اليمنية بشكل كبير
صوت الأمل – يُمنى الزبيري يعد الفن الغنائي واحدًا من أقدم الفنون في التاريخ وأكثرها …