الأغاني التراثية اليمنية؛ مرآة للثقافة في المجتمع الريفي
صوت الأمل – هبة محمد
تعد الأغاني التراثية جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الشعوب، فهي تحمل في طياتها تراثًا عريقًا يمتد لعقود وقرون عديدة، ومن بين هذه الأغاني، تبرز الأغاني التراثية اليمنية المتعلقة بالحياة الريفية بشكل خاص؛ إذ تحمل في نغماتها وكلماتها روح الأرض والطبيعة والحياة البسيطة.
وتمتلك الأغاني التراثية القديمة تأثيرًا فريدًا على مسيرة الحياة الريفية؛ إذ ليست مجرد كلمات ملحنة وألحان مبهجة، بل تعد أداة قوية تنقل التاريخ والهوية والقيم العميقة للمجتمع الريفي، وتعكس الأغاني مشاعر الحب والفرح والألم والأمل التي يعيشها الأفراد في مختلف المناطق اليمنية الريفية.
واقع الأغنية التراثية في الأرياف
يعدُّ الغناء اليمني في الريف تعبيرًا فريدًا عن ثقافة المجتمعات الريفية وتراثها، فهو ليس مجرد فن ترفيهي، بل جزء لا يتجزأ من حياة الناس ووسيلة للتواصل والتعبير عن المشاعر والتجارب اليومية؛ إذ ينتقل الغناء اليمني في الريف من جيل إلى جيل، محافظًا على الروح الأصيلة للتراث وموروثات الأجداد.
يتحدث عميد ديوان الطرب الفنان رزاز أمين عن واقع الغناء اليمني في الريف وجوانبه المميزة في بساطتها بقوله: “يتسم الغناء اليمني القديم في الأرياف بالبساطة والعفوية؛ إذ يكون تناقله وتعلمه بشكل شفهي وعفوي بين الأجيال، ويُغنى في الشوارع والحقول والمساحات الطبيعية الخلابة، وتتردد ألحانه الجميلة في أرجاء القرى والوديان، ويعكس هذا الغناء الحياة الريفية بكل تفاصيلها، من العمل في الحقول والمزارع، إلى المناسبات الاجتماعية والأعراس والاحتفالات”.
ويتابع: “في الريف، نجد الفلاحين والعمال والشباب يجتمعون ليستمتعوا بألحان موسيقانا الشعبية، في لحظات الفرح والترحاب؛ إذ يتجاوب الجميع مع الألحان، ويتبادلون الرقصات والأفراح، ويشكل الغناء والموسيقى التراثية جزءًا أساسيًا من الثقافة والهوية الريفية”.
ويشارك الفنان عبد الباسط الحارثي بقوله: “إنّ ديمومة ترديد الأغاني التراثية في المناسبات الرسمية والشعبية في الأرياف تعدُّ جزءًا لا يتجزأ من الثقافة اليمنية؛ إذ تعزف الأغاني بفخر واعتزاز، وتحمل في طياتها تراثًا ثقافيًّا عريقًا يمتدُّ من خلالها عبر الأجيال، ويتواصل الشعب اليمني مع جذوره وتاريخه، وتعكس مشاعره وآماله وأحزانه”.
فيما يقول الفنان آزال المغلس: “إنّ واقع الأغنية التراثية لا يزال حيًا وله مكانته واحترامه الكبير لدى أهل الريف بشكل أكبر من أهل المدينة، وإنّ الأغاني الشعبية الريفية لها دور مهمّ في استمرارية تراثنا، وفي خلق جيل واعٍ ذاق طعم الفن والثقافة”.
ويشير الفنان أحمد الحيلة إلى أنّ الأرياف اليمنية تحتضن الألحان الجميلة والكثيرة التي لا تزال تداولها في الأفراح والمناسبات المختلفة إلى اليوم، ويحافظ المجتمع الريفي بكل فخر على تراثه الموسيقي، ويستمر في ترديده بكل مناسبة، ومع ذلك، نلاحظ تغيّرًا في الوضع الراهن، فقد اجتاحت الأغاني الشبابية المشهد الغنائي، رغم سطحيتها وفقرها الفني، ولقد انتشرت وغمرت المساحة الكبيرة، وأصبحت تلك الأغاني الأكثر تداولًا في الريف والمدينة”.
ويرى الحيلة أنه على الرغم من ذلك، يظل المجتمع الريفي يتميز بأغانيه الشعبية التي تتمتع بطابعها الخاص، وتختلف إلى حدٍ ما عن الأغاني الصنعانية أو الحضرمية؛ فلكل منطقة في الريف بصمتها المتميزة وتعبيرها القوي عبر الموسيقى.
كما يشير أنّ الأغاني الشعبية في الريف تعبّر عن مشاعرنا العميقة، وتعكس تجارب حياتنا، تنقل لنا الأمجاد والحكايات والأحلام، وتعزف على أوتار قلوبنا بلحنها العذب العميق، وتحاكي الطبيعة الخلابة والعمل الشاق في الحقول، وتروي قصص الحب والفرح والألم.
فيما أضاف الفنان شرف القاعدي: “كان الآباء والأجداد في الريف يحافظون على الأغنية التراثية فتجدها في جميع مناسباتهم السعيدة، وفي حياتهم اليومية في الحقول والمزارع، وأثناء رعي الحيوانات، ولا يتوقفون عن ترديد مهاجلهم التراثية أثناء (الصراب) ويعني جني المحاصيل الزراعية”.
يواصل القاعدي: “فقد كان يغني مخاطبًا الشمس والغيوم لتهون حرارتها على المزارع، وما أجمل كلمات المرحوم مطهر الإرياني التي تغنى بها المرحوم الحارثي، (يا شمس عز الظهر هوني قليل، خفي على الزارع شوية، الزارعي قديس مثل الخليل، يا شمس كوني بارديه)”.
وأشار القاعدي أنّ المزارع اليمني في أنحاء الريف اليمني كان يخاطب الثور أثناء حراثة الأرض وبذر البذور، ويستحثه على أن يشد من عزيمته، لكي ينتهيا من حراثة الأرض قبل هطول المطر، الذي بطبيعة الحال سيحول دون إكمال حراثة الحقل، بقوله: “يا ثور يا أبيض يا قوي الساعد، مد القدم واسمع دنين الراعد”، وكأنه يقول: ألَا تستمع إلى صوت الرعد! فهذه علامة قرب هطول المطر”.
ويؤكد ذلك الفنان يوسف الزهيري بقوله: “الأغاني التراثية والشعبية تعد المفضلة والمحببة في الريف؛ إذ تلعب دورًا كبيرًا في حياة المزارعين أثناء العمل الزراعي، فهي تعكس قصص المزارعين وتجاربهم، وتحمل في طياتها أحاسيسهم وآمالهم”.
أشهر الأغاني التراثية
من بين أشهر وأقوى أغاني التراث اليمني التي اشتهرت في الريف والمدينة، ذكر الفنان الحيلة مجموعةً من الأعمال المميزة، منها أغنية “يقرب الله لي بالعافية والسلامة” تعبر هذه الأغنية عن الأمنيات الصادقة بالسلامة والعافية، وأغنية “طرب سجوعه”، وتعكس الأغنية حالة الشوق والانتظار، وتأسر المستمعين بألحانها العذبة وكلماتها العاطفية التي تصف مشاعر الحب والفراق”.
ويتابع: “كذلك أغنية “لي في ربى حاجر غُزيل” هذه الأغنية التي اشتهرت في البوادي والحضر، وقد غناها كبار الفنانين منهم الفنان أيوب طارش، وكذا أغنية “يا مستجيب الداعي”، وكذا “وامغرد بوادي الدور”، وأغنية “صادت فؤادي بالعيون الملاح”، وكذا “لله ما يحويه هذا المقام” أيضًا من أشهر أغاني التراث اليمني وأقواها أغنية “يا ساري البرق”.
كما أشار المغلس أنّ هناك العديد من الأنماط الموسيقية والأغاني التراثية المتنوعة في كل ريف يمني؛ إذ لكل منطقة أساليبها الفنية والثقافية الخاصة، من بين هذه التنوعات نجد الأغاني الصنعانية والجمالية والأغاني البلدية والملالة التعزية والأغاني البدوية وغيرها الكثير.
وذكر أيضًا الفنان القاعدي الأغاني التراثية التي تشتهر بها أرياف اليمن منها “المهاجل والمهايد والأهازيج” فلكل فصل ومعلم زراعي مهاجله الخاصة، وأنّ المجتمع الريفي يستخدم مهاجله وأهازيجه وزوامله في كل مناسباته، وتتميز كل منطقة عن أُخرى بأنواع التراث الذي يعبر عن عاداتهم وتقاليدهم، فالمهاجل والمهايد للزراعة، وبعض المهاجل للمناسبات، والزوامل للأفراح والترحيب بالضيف وحل القضايا المجتمعية.
وذكر أيضًا الزهيري أنّ من بين الأغاني المشهورة في الريف اليمني، أغاني “ما عادناش جمال” و”ما أجمل الصبح في ريف اليمن” و”البالاه والليل هالبال” وغيرها، تردد هذا التراث الغنائي القديم في كل ركن من أرجاء الأرياف اليمنية.
فيما يرى الباحث في التراث الغنائي الفنان أحمد المعطري أنّ هناك أغاني من الفلكلور الشعبي تؤدَّى في الأرياف خاصة في الأفراح والمناسبات، وتختلف هذه الأغاني عن الأغاني الحضرية، وأنّ من بين الأغاني الريفية الزفة العدينية وأغنية “أهلًا بمن داس العذول واقبل”، وأغنية “خطر غصن القنا” وغيرها، وأما الأغاني الصنعانية والحضرمية فلا تُغنّى في الأرياف؛ لعدم توافقها مع مستوى الثقافة الريفية.
وأوضح أيضًا أنّ أشهر الزفة العدينية التي كانت تُغنّى في مديرية العدين، أغنية “ساعة الرحمن”، وأول من أشهرها فنانة من العدين تُدعى بنت شريان، وأول من غنّاها الفنان علي الآنسي، وهناك أيضًا أغنية “أنا وحدي أنا وحدي”، وأغاني الزراعة مثل “مهجل ليلكم ليلكم السيل جانا وجاكم”.
ويكمل الحديث: “أما في الحجرية بمدينة تعز، فإن الزبيرية هي أحد أشهر الفلكلورات المعروفة، ومن بين الأغاني المشهورة في الحجرية زفة “رشو عطور الكاذية”، أما في حراز، فلها لون آخر من الأغاني مثل أغاني أحمد السنيدار وعلي الأنسي”.
تحديات وتوصيات
يقول أمين رزاز: “هناك تحديات تواجه تراث اليمن، مثل سرقة الألحان والأغاني من قبل بعض الدول الخارجية، ومحاولات تطوير الأغاني القديمة بطرق غير صحيحة تؤثر في اللحن والإيقاع، الذي وجب من الجميع الحفاظ على نكهة اللحن والاحتفاظ بأصالته”.
من جانبه يقول الفنان عبد الباسط الحارثي: “إنّ الأغاني التراثية في الريف والمدينة تواجه تحديات كبيرة، تتمثل في قلة الاهتمام الحكومي بالمحافظة عليها وتنميتها، وذلك من خلال تدوينها كموسيقى علمية، وتوثيقها بشكل صحيح، ويجب أن تُعامل هذه الأغاني ككنوز وطنية، ويتعين حمايتها من الاندثار والسرقة، التي قد تتعرض لها على يد الفنانين الآخرين الذين ينسبونها لأنفسهم”.
ويرى الحارثي أنّ هناك كثيرًا من الأغاني اليمنية التي تعرضت للصد والتحريف، وسُرقت من قبل بعض الفنانين العرب، لذلك، يوصي الحارثي أن نعمل بجدية على حماية الأغاني التراثية اليمنية وتعزيزها، وذلك من خلال تسجيلها صوتيًّا ومرئيًّا ونشرها بشكل واسع عبر القنوات الفنية ووسائل التواصل الاجتماعي، وأن نعطي لهذه الأغاني القيمة والاعتراف الذي تستحقه، ونعمل على تعميمها ونشرها بكل الوسائل الممكنة، لكيلا تندثر وتتعرض للنهب والسرقة.
ويوضح المغلس أنّ التراث الغنائي يعاني من الإهمال من الدولة والجهات المختصة، وأحيانًا من المجتمع نفسه؛ إذ يُنظر إليه كذكريات أو ماضٍ سينتهي، ومن المهم الحفاظ على هذا الكنز الزاخر والكبير من خلال توثيقه وتسجيله، وتنظيم حفلات ومهرجانات للأغاني التراثية داخل الوطن وخارجه، والترويج لها بالشكل المطلوب والجميل، وينبغي أن تتولى الجهات المختصة رعاية هذا التراث الثقافي المهم وتنظيمه، سواء في المدن أو في الأرياف”.
أما الفنان شرف القاعدي فله رأي آخر؛ إذ يقول: “إنّ اليمن يمر بأوقات عصيبة جدًّا بسبب النزاعات، وبالتأكيد سيؤثر سلبًا على الفنون بشكل عام، فالأولوية لدى الناس في مثل هذه الظروف القاسية البحث عن سبل العيش وتأمين قوت يومهم، وقد يتجاهلون الاهتمام بالتراث الثقافي الذي يعدُّ جزءًا لا يتجزأ من هويتهم”.
وأضاف: “أنّه يجب أن ندرك أنّ التراث اليمني فريد ومميز، ويتمتع بخصوصية لا تشبه أي تراث آخر في العالم؛ إذ يتميز بتنوع الكلمة واللحن والإيقاع، ويحمل في طياته جذورًا تاريخية عميقة، وأنّ الاحتفاظ بهذا التراث الثقافي المتميز يعدُّ مهمة حضارية وإنسانية، تعكس هويتنا وتاريخنا وثقافتنا”.
ويقول الفنان الزهيري: “يواجه التراث اليمني تحديات جسيمة نتيجة الصراعات التي تهدد باندثاره؛ لذا، ينبغي توثيق الأغاني التراثية اليمنية وتجديدها للحفاظ على هذا الإرث الثقافي المهم من قبل الدولة والمنظمات المحلية والدولية وأيضًا المجتمع، ويجب نشرها في وسائل الإعلام، مثل الإذاعة والتلفزيون؛ لتعزيز التواصل، والتعريف بثقافة الريف اليمني وتراثه الغنائي للأجيال القادمة”.
73.2% من المشاركين يعتقدون أن التراث الغنائي في اليمن يعكس الهوية الثقافية اليمنية بشكل كبير
صوت الأمل – يُمنى الزبيري يعد الفن الغنائي واحدًا من أقدم الفنون في التاريخ وأكثرها …