صناعة الجنابي دلالات وارتباطات اجتماعية عظيمة
صوت الأمل – هبة محمد
شعور من العظمة والتاريخ والحضارة والتراث اليمني الأصيل ينتابك بمجرد الدخول إلى سوق الجنابي، في محافظة إب، وما إن تقترب أكثر حتى تشاهد تحفة فنية تدهشك بجمالها وصناعتها المتقنة.
تجولنا في سوق الجنابي بمحافظة إب، وأثناء ذلك لفت انتباهنا عبارات أحد المشترين للجنابي وهو يقول: “هذه الجنبية جزء مني، ومكانتها كمكانة أحد أولادي”، أدركنا حينها أنَّ هناك رواية وحكاية مشوقة حول هذا الإرث التاريخي العظيم.
صناعة الجنبية اليمنية وأنواعها
“محافظة صنعاء في المرتبة الأولى بصناعة الجنابي”، هذا ما أكده لنا خالد منصور الورافي (أحد العاملين في تجارة الجنابي منذ 32عامًا، ورث هذه المهنة عن والده، وامتهنها منذ نعومة أظافره). وأضاف: “تعد صنعاء الأولى محليًا في صناعة الجنابي، تليها محافظة ذمار، ومحافظة صعدة، ومحافظة إب، وفي وقتنا الحاضر لا تزال محافظة صنعاء وذمار هما الأكثر صناعة للجنابي”.
هذا وقد ذكر الورافي في حديثه لـ”صوت الأمل” عدداً من الأنواع التاريخية للجنابي، أهمها: الجنابي التراثية الأسعدية (نسبة للأسعدي الذي صنعها)، والحضرمية، والشبوانية، مرجعًا سبب تسميتها بالجنبية إلى لبسها في الجنب (خاصرة الرجل). وأشار إلى أنَّ كل محافظة من المحافظات اليمنية تختلف اختلافات متنوعة في صناعة الجنابي؛ ولكن جميعها تُصنع من حيوان وحيد القرن.
ويتكون قرن وحيد القرن من أربع طبقات، كل طبقة من وحيد القرن يُصنع منها جنبية ذات قيمة ولون وصفة مختلفة، ويتزين رأس الجنبية بجنيهات من الذهب الحميري أو الفضة على شكل قطع دائرية.
وأوضح الوارفي أنَّ الطبقة الأولى هي طبقة القلب لوحيد القرن وتسمى “طبقة الصيفاني”، وتُستخرج من وسط قرن الصيفاني، ويكون فيها شعر الجنبية رفيع ومعنق وأخضر وتسمى “جنبية صيفاني أخضر”، ويصل سعرها إلى أكثر من 1500 دولار أمريكي، وهي أكثر الأنواع طلباً وأغلاها ثمناً، ويرجح أنَّ عمر الجنبية الصيفاني يصل لأكثر من 600 عام. أما بالنسبة لطبقة الأسعدي يميل لونها إلى السواد ويحتاج إلى فترة من الاستخدام واللمس حتى يتغير اللون.
مضيفاً “هناك نوع آخر من الجنابي والتي تتميز باللون المائي المقارب للون البني الزجاجي، وتسمى بطبقة الزراف وتتميز باختراق الضوء لها، أما الطبقة الرابعة فهي الطبقة البصلية ويميل لونها إلى اللون البيج، وهنا الضوء يخترقها بشدة”.
وفي السياق ذاته قال الورافي: “نجد كذلك أنواعاً أخرى تُصنع من قرون الحيوانات الأفريقية، كالوعل والجاموس الأفريقي وبعض الحيوانات الأخرى، وتباع بسعر أرخص من أسعار الجنابي المصنعة من وحيد القرن، نظراً لتوفر كميات من القرون المستوردة”. واستعرض الورافي في حديثه عدداً من أنواع الجنابي المصنعة من حيوانات غير وحيد القرن تسمى “جنابي الكرك”، وأخرى “جنبية المصوعي”.
ومن جانبه أشار طارق العتمي (تاجر في سوق الجنابي منذ طفولته) إلى أنَّ نوع الجنبية التي يلبسها الشخص تزيد من مكانته الاجتماعية، خاصة إذا ورث هذه الجنبية أو اشتراها من شخصية مهمة ومشهورة، مثل جنبية الإمام البدر التي اشتراها منه شخص يدعى حمود الحزمي بورقة شراء بين الطرفين (بصيرة)، ووصل سعرها إلى مليون دولار.
الصعوبات التي تواجه صناعة الجنابي
يقول سمير العديني (عاقل سوق الجنابي في محافظة إب): “أصبح الاستيراد من الأمور الصعبة، والعمل بمهنة الجنابي لا يقل صعوبة عن استيرادها”.
مرجعًا أسباب انهيار صناعة الجنابي إلى منع استيراد حيوان وحيد القرن محلياً ودولياً؛ ونتيجة لذلك أصبحت صناعة الجنابي التراثية خفيفة جداً بل شبه منعدمة، ولم يعد هناك سوى تبادل البيع والشراء بالجنابي الأصلية الموروثة عن الآباء والأجداد بين الأشخاص الذين يمتلكونها.
ويوضح العديني: “اتَّجه الكثير من الحرفيين إلى صناعة الجنابي من مادة البلاستيك المستوردة من الصين، كذلك يوجد هناك نوع آخر من مادة البلاستيك يُستخدم لصناعة الجنابي (وهي خيوط وترية بيضاء)، وتُستخدم هذه الأنواع حالياً في صنعاء وذمار”. مبيناً أنَّ هذه الأنواع اجتاحت الأسواق فأصبح عرض الجنابي كله صينياً وذمارياً؛ بسبب رخص أسعارها وقلة تكاليف صناعتها مقارنة بالجنابي التراثية المذكورة سابقاً، والتي أصبحت أسعارها ترتفع يوماً بعد يوم؛ بسبب منع استيراد حيوان وحيد القرن دولياً.
مؤكداً على أنَّهم -بوصفهم حرفيين- يقومون بالعمل في بيع وشراء الجنابي الصينية والذمارية؛ للمحافظة على إرثهم الحضاري.
وشدد العديني على الدور الذي يجب أن تقوم به الدولة والجهات ذات العلاقة، من السماح للمواطنين بارتداء الزي اليمني التقليدي والمكون من الجنبية اليمانية في دول الخارج؛ لأنه لا يُسمح لليمني بلبسها؛ كونها تُصنَّف نوعاً من أنواع السلاح، وليست مدرجة ضمن الإرث الحضاري والثقافي لليمن، مؤكداً: “نحن نريد أن نوصل صورة جميلة وتراثية عن الجنبية اليمنية في الخارج”.
بينما صادق العتمي يشتكي من انتشار عصابات خاصة بسرقة الجنابي منذ مطلع العام 2011م حتى العام 2019م قائلاً: “إنَّ الشخص يلبس الجنبية وهو خائف على حياته؛ نتيجة انعدام الأمن، فحتى التاجر إذا امتلك جنبية تراثية غالية الثمن لا يضعها في محله؛ خوفاً من أن يتعرض للسرقة أو القتل”.
دول أخرى مصنعة للجنبية
أشار العديني في كلامه إلى أنَّ هناك دولاً أخرى تصنع الجنابي مثل السعودية (جيزان، عسير، الرياض)، وعمان. وشغل صناعة الجنابي في هذه المناطق يختلف عن الجنبية اليمنية، والتي تعد ذات جودة وجمال تراثي مختلف له تاريخه العريق والذي يعود إلى 3000 ق.م، واكتُشف في بعض التماثيل القديمة مثل تمثال معد يكرب (الملك السبئي) أنَّه ظهر مرتدياً الخنجر في خاصرته.
أجزاء الجنبية
أوضح خالد منصور الورافي، من خلال سنوات خبرته في تجارة الجنابي، مكونات وأجزاء الجنبية، كان أهمها الحزام (وهو ما يلبسه الرجل على خاصرته، ويتزين بزخارف ونقوش جميلة تدل على مهارة الصناعة، مطرزاً بالخيوط الذهبية الرفيعة التي تختلف من حزام لآخر).
ويواصل القول “أما الجفل وما يسمى بالغمد والعسيب (وهو الجزء الملامس للحزام الذي يدخل فيه الخنجر) يُصنع من أجود أنواع الخشب أو الصنوبر، ويغطى بالذهب والفضة، هذا المكان تُغمد فيه قطعة معدنية شديدة الحدة، وترسم عليه نقوش متنوعة”.
مضيفاً: “تتكون الجنبية كذلك من جزء يفصل بين الخنجر ورأس الجنبية ويسمى “المبسم”، أما رأس الجنبية فيطلق عليه “مقبض”، وهو أغلى ثمناً، ويحدد من خلاله سعر الجنبية ذاتها إذا كانت مصنوعة من قرن وحيد القرن، ويزين بأزرار من الذهب أو الفضة أو العقيق اليماني”.
ويوضح الورافي أن هناك نقوشاً معينة للجنابي تدل على الصانع نفسه، فمثلاً صناعة العيزري له نقش محدد في الجنبية، وهناك الذماري أيضاً له نقش معين خاص بالصانع.
الجنبية اليمنية ودلالاتها اجتماعياً
ترتبط الجنبية اليمنية بهوية اليمن وتاريخها وحضارتها ووجاهتها، وهي جزء لا يتجزأ من الإنسان اليمني منذ قديم الزمان، وما زالت لها الأهمية الكبرى والمكانة الرفيعة بين أوساط الشعب اليمني، فهي بنظر الكثيرين رمز للشرف والقوة والرجولة، ورمز من الرموز المهمة للتراث اليمني، ورثها الكثيرون عن آبائهم وأجدادهم، هذا ما أكده لنا سمير العديني (عاقل سوق الجنابي في محافظة إب)، قائلاً “تعد الجنبية أغلى ما يمتلكه الشخص، وهي حل من حلول القبيلة، فمثلاً إذا رمى شخص بجنبيته أمام مجموعة من الناس أو أمام شيخ القبيلة فهو بحاجة إلى عون ومساعدة القبيلة، ففي تلك اللحظة واجب على القبيلة نصرته سواء مادياً أو بالرجال”.
ويواصل حديثه: “أما إنَّ ذهب الشخص بجنبيته إلى من يختصم معهم (غرمائه) في قضية معينة، ووقف أمامهم، وكسر العسيب أو الجفل، فيقصد بذلك الندم والإقرار بفعلته، ومن العرف القبلي وجوب أن يبادره الطرف الآخر بالمسامحة”. ويضيف العديني: “إشهار الجنبية في بعض الأفراح والمناسبات في الرقصات الشعبية دليل على حب الشخص للعريس ومشاركته فرحته”.
وهناك أشخاص آخرين تمر عليهم ظروف مادية ضيقة، فمن الممكن أن يبيع ذهب زوجته، أو أرضه أو سلاحه أو سيارته (أي شيء) لكن الجنبية اليمنية التراثية لا يمكن أن يبيعها، ويستحيل أن يتخلى عنها؛ لأنه يعدُّها عضواً من أعضاء جسده.
تراث الطهي اليمني يغزو العالم بمذاقه الفريد
صوت الأمل – هبة محمد يُعدُّ المطبخ اليمني واحدًا من المطابخ العربية الرائعة والشهيرة…