استكشاف روائع الفنون التراثية الشعبية في اليمن
علي المحمدي
مدير عام الفنون الشعبية بوزارة الثقافة صنعاء
(مستشار عدد الفلكلور والأزياء الشعبية في اليمن)
كثيرة تلك الرقصات التي تزدان بها بلادنا اليمن لجمال الأداء والمحتوى، من الإيقاع إلى الملابس المتنوعة وصولاً إلى الإكسسوارات المتفردة لكل منطقة عن أخرى. وما زالت بلادنا تحتفظ بكم لا متناهي من الموروث الشعبي الذي يحتاج إلى الحفاظ عليه من الاندثار، كتقديم برامج تعرف الناس بموروثها بشكل أكاديمي من قبل جهات مختصة. وأقصد هنا بالجهات المختصة وزارة الثقافة، والإعلام؛ لما لهما من دور بارز في توعية الناس وتعريفهم بالزي اليمني الأصيل وليس الدخيل، كما هو حال أزيائنا في الوقت الحالي التي أُدخل عليها ما يسمى بـ”التجديد” مما أكسبها شكلًا مغايرًا تمامًا عما نعرفه.
وأصبحت الأزياء المجددة لا تحاكي الزي الأصلي اليمني ولا تُعرف عن غيرها، وقد ظهرت وأصبحت من مظاهر الموضة الشعبية الحديثة لكثير من اليمنيات اللائي يلبسنها في مختلف مناسباتهن بفخر واعتزاز بداعي التعريف بالموروث الشعبي دون علم أنه يتم تشويهه واستبداله بشيء لا ينتمي للزي الشعبي اليمني الأصيل؛ وهذا ما يسمى بالتجهيل بسبب قصورنا عن معرفة أزيائنا اليمنية والحفاظ عليها من الدخيل.
البحث والتنقيب عن بقية الرقصات وما تحويه
كان للفلكلور الشعبي اليمني نصيبه من الإهمال في الآونة الأخيرة لمتغيرات عديدة، منها عدم توفر معاهد متخصصة لتدريس الفن الشعبي على مستويات أكاديمية، وعدم توفر كوادر متخصصة في هذا المجال، وإن وُجدوا فهم إما في عداد الموتى أو مُتخلَّى عنهم بإحالتهم إلى التقاعد، وغيرها من الأسباب. وبهذا أتساءل في نفسي: لماذا لا نكون مثل غيرنا من الدول العربية والغربية التي تبتعث مواطنيها للدراسة في الخارج لمثل هذه المنح حتى يكون لدينا كادر قادر على الحفاظ على موروثه الشعبي، عند عودته إلى أرض الوطن، من الاندثار؟!
كثيرة هي تلك الشروح والأوصاف الجمالية التي تصف لنا الصورة الدقيقة لروح الرقصة اليمنية في مختلف تكويناتها، وقد تنقل إلينا بعض الأوصاف اللفظية الدقيقة والعبارات ذات الطابع الممزوج بمصطلحات فنية تجعل القارئ يعيش في أجواء الرقصة وكأنه يؤديها بنفس حماس مؤديها.
ويظل الوصف اللفظي عاجزًا أمام جمال الأداء الحركي الأخَّاذ الذي يسلب الألباب، لكننا نقدمه هنا لعل القارئ يدرك أهمية الفنون الشعبية بمختلف أنواعها. وينقسم الرقص إلى الآتي:
1) رقص الرجال وحدهم.
2) رقص النساء وحدهن.
3) الرقص المختلط (رجال ونساء).
وللرقص اليمني جزئيات مهمة متكونة من طابعين: تعبيري، وآخر فرائحي (ترفيهي). والتعبيري ما ينقل إلينا تعبيرًا عن مواقف معينة مثل موسم الحصاد أو موسم الصيد وغيرها، وهي هنا تعطي انطباعًا عن عادات وتقاليد تُعرفنا وتعلمنا عن المورث الشعبي اليمني للمنطقة التي قدمت منها.
ومن الشواهد المثبتة لبلادنا اليمن الكثرة والتعدد والتفرد في فنونها الشعبية، وهذه خاصية يندر وجودها عند من يحيطوننا من الدول العربية التي تمتلك هي الأخرى فنونها وطابعها الفني الشعبي الخاص بها، لكن بمحدودية معينة. والتعدد ظاهرة صحية مفادها أن هنالك كمًا لا يستهان به من الجماليات الفنية ذات المضمون الخاص، وأن هناك قدرة على إيصال مشاعر الحزن والفرح وكل المشاعر واختزالها في الفن الشعبي (الرقص).
ولا يخلو فننا الشعبي اليمني من الرقص التعبيري، ومنه:
1) رقصة العَدة الحضرمية: وهي رقصة تعبيرية تتضمن في محتواها طابع النزال أي القتال؛ وهي بهذا تتخذ طابعًا حربيًا. ومعنى كلمة العَدة التجهيز للشيء أو الاستعداد لتجهيز العتاد. والعتاد هنا آلة الحرب في ذلك الوقت والتروس والسيوف؛ إذ إنها تعبر عن الفروسية والمبارزة للمقاتل، ولا يخلو مظهر الراقص من الأزياء التي يرتديها، التي تُعرف المشاهد عن أصل المنطقة ومكانها.
2) رقصة البرع الصنعانية: هي رقصة معروفة ومشهورة ولا يكاد يخلو ذكرها من فنوننا الشعبية، وهي تحاكي فنون القتال الحربية ولكن بشكل ومضمون فنيين شعبيين. ومعناها في أصل اللغة العربية البراعة والإتقان للشيء وإجادته ببراعة فائقة. ولم تكن رقصة البرع تقتصر على كونها رقصة شعبية يؤديها عامة الناس في المناسبات كالزواج وغيره؛ بل كانت في ذلك الوقت البعيد من الزمن تُستخدم وسيلةً لإيصال خبر ما أو حدث جلل عبر آلة “الطاسة”، التي هي جزء مهم في رقصة البرع (وهي عبارة عن نحاس خالص يسمح بإعطاء صوت رنان قوي يُسمع عن بعد عند النقر عليه)، وبهذا نتوصل إلى أن الطاسة كانت تستخدم كوسيلة نداء ليحتشد جموع الناس.
أما الطابع الثاني من الرقص فهو ذو الألق الفرائحي الذي يؤديه عامة الناس في مختلف المناسبات، ومن تلك الرقصات:
- رقصة الشرح اللحجية: وتأتي رقصة الشرح متوافقة مع معنى الكلمة باللهجة الدارجة ولأصلها في اللغة العربية؛ فالشرح في أصل اللغة العربية: الانشراح والانبساط، وفي العامية من “شَرْح الشيء” أي الحفاظ عليه من الاعتداء. وجاءت الحركة الإيقاعية لرقصة الشرح من إتقان الحركة التي تظهر بشكل متقن ومرتب.
2) رقصة “عطا”: من محافظة الحديدة، وتعني في اللهجة التهامية العطاءَ والهبة التي تُرتجى من الله. ورقصة عطا من الرقصات الشعبية التهامية الصميم التي تعبر عن الموروث الشعبي لمدينة الحديدة باللهجة التهامية البسيطة، وكلمات الأغنية تحوي معاني عديدة:
“عطا.. وآ رب امكريم
عطا.. زوّج امحريم
عطا.. من ميهْ وقليل
عطا.. عطط امهلج
عطا.. شامسكه زلج
عطا.. وآ رب امكريم
عطا.. بنت امبيشيه
عطا.. تسري ليليه
عطا.. وآ رب امكريم”
تستحوذ صيغة الترجي في كلمات الأغنية منذ بدايتها حتى النهاية؛ بغية الاستجداء والاستعطاف؛ فـ”عطا.. زوِّج امحريم” صيغة يُراد منها ترجي تزويج الفتيات اللائي بلغن سن الزواج. و”عطا.. من مِيِّهْ وقليل” تعني تقليل المهور والتيسير على الشباب حتى يتسنى لهم الزواج. و”عطا.. عطط امهلج” تشير إلى تكرار كلمة عطا بصيغة عطط، وهي صيغة كلامية باللهجة التهامية للتعبير عن العاطي المانح. والهلج شجرة كبيرة ضخمة تشير إلى القوة والصلابة. و”عطا.. بنت امبيشيه” للدلالة على منطقة يمنية تقع على حدود المملكة العربية السعودية، وكانت بها أسرة تقطن تلك المنطقة في ذلك الوقت وتم ذكر البنت نسبةً لأهلها (بيشه). و”عطا.. تسري ليليه” أي تكثر من خروجها في المناسبات النسائية.
ومن الرقصات الشعبية التي تمثل طقسًا من طقوس الصيد المهمة لدى الفلاحين والقناصين، وتقام دوريًا في موسم الصيد (الظباء والوعول)، وهي عادة مرتبطة بأهالي منطقة وادي حضرموت؛ وهذا يعني أن المورث الشعبي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعاداتنا وتقاليدنا من خلال ممارستنا لطقوسنا مثل الصيد والقنص، وغيرها من العادات اليمنية.
والرقصة هي رقصة “بني مغراة” المكونة من اسمين مركبين، فـ(بني) هم الصيادون الذين يقومون بقنص حيوانات الظباء والوعول، وأما الاسم الآخر فهو (مغراة) وهي كلاب الصيد التي يربيها الصيادون لتقوم بمطاردة الفريسة والإمساك بها والانقضاض عليها.
وتتم رقصة “بني مغراة” بعد عودة الصيادين من رحلتهم محملين بغنائمهم من الصيد، أو مباشرةً بعد عودتهم من الصيد ورقصهم لرقصة سريعة تسمي “المسيرة”، وهي تشبه كثيرًا رقصة الزامل، التي اشتهرت بها معظم مدن وادي حضرموت وقراه، مثل مدينة تريم ودمون ووادي سر. وفي العموم، فإن أغاني زفة الوعل تبتدأ بعبارة (بني مغراة).
أهمية حيوان الوعل في التراث اليمني
تُؤدى أهازيج الغناء بعد عودة الفلاحين من رحلة الصيد بغنيمة حيوان الوعل. ويعد هذا من تراثنا الشعبي الذي تمكنت من اختراق حواجز الزمن دهرًا طويلاً والبقاء والحفاظ على هذا الموروث الخصب وعبر فترات زمنية من تاريخ اليمنيين القدماء؛ إذ اتخذ الأقدمون في حضرموت من حيوان الوعل رمزًا للبطولة والشجاعة والإقدام، وظهر عبر منحوتاتهم وفي النقوش في الحضارات اليمنية القديمة التي تعد شاخصة وشامخة بصورة حيوان الوعل الذي كان شعارًا لليمن في أثناء تلك المدة الزمنية.
وكان لحيوان الوعل مكانة مقدسة، وهو أيضًا رمز ديني منذ عصور الوثنية؛ إذ كانت طقوس اصطياده تحتم عليهم الاحتفاظ بشيء منه، كرأس الوعل الذي يحوي القرنين، أو الأطراف، أو غير ذلك للتبرك به.
ومن هنا ندرك أهمية حيوان الوعل في التراث الشعبي من الناحية الروحية والنفسية لدى أهالي منطقة وادي حضرموت؛ وبحسب المعتقد السائد لديهم أن حيوان الوعل يدفع عنهم الضر والشر من الكوارث الطبيعية وغيرها.
توصيات مقترحة
يمكنني أن أجزم أن المورث الشعبي للشعوب أساسه العادات والتقاليد المتبعة، وهي ما نتوارثه عبر أجيال ممتدة من جيل لآخر، وما يحفظ لنا هويتنا وعراقتنا وأصالتنا؛ لذا يجب علينا الحفاظ عليه.
ولكل باحث يسعى إلى التجديد والتعريف بهويته، لا بد له أن يبحر في تاريخه لمعرفة ما يحوي هذا التراث الخصب من التنوع، وأن يسعى للتجديد والتغيير. وللأسف هناك قلة من المتشدقين بثورة التجديد يقومون بأعمال على أساس إحياء التراث والتعريف به بطريقة لا تخدمه بل وتسيء للعمل وللموروث. ويؤسفني القول إننا لم نشاهد أعمالًا -ولو موسمية ذات مستوى- تخدم هذا المورث؛ ليظل وعينا في الحفاظ عليه ولتوظيفه بشكله الصحيح، وتقديمه للناس بحلة جديدة تناسب الزمن والمكان. لا يسعني من خلال مقالتي هذه سوى أن أعبر عن حلم راودني -وما يزال- في أن تكون هناك مؤسسات تُعنى بهذا الجانب وأن تخدم جانب الفنون بكل أنواعها. وأرغب في تقديم بعض التوصيات:
1. إقامة معهد للفنون الجميلة يحوي كلاً من الموسيقى والمسرح والفنون الشعبية، وكل ما يرغب فيه جميع الفنانين.
2. العمل على إعداد برامج تعريفية عن فنوننا الشعبية.
3. توثيق الرقصات الشعبية والأغاني لمختلف مناطق الجمهورية ودراستها وأرشفتها؛ كيلا تندثر هذه الفنون.
4. التعريف بهذه الفنون التراثية بهدف إعادتها وتقديمها بقوالب فنية تناسب ظهورها على خشبة المسرح بشكل علمي، ويكون موائمًا مع روح العصر لكيلا تفقد هويتها.
5. إسهام الجهات المعنية، كوزارة الثقافة والإعلام، في تطوير مستوى الفنون اليمنية كلها، ورفع الوعي المجتمعي بأهمية الفن الشعبي لأي بلد.
6. الإسهام في تطوير الحركة الفنية المحلية وتفعيلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ كونها وسيلة سهلة ومتاحة للتواصل لجميع الفئات المجتمعية.
7. النزول الميداني للمحافظات اليمنية من أجل البحث عن أنواع الرقصات الشعبية اليمنية وحصرها؛ للحفاظ على الموروث الشعبي قبل أن يندثر.
8. العمل على إقامة مهرجانات سنوية للرقص الشعبي على أن تشارك فيه كل المحافظات.
9. إقامة أسابيع ثقافية داخليًا وخارجيًا؛ لتنشيط الحركة الثقافية الفنية وتعريف الشعوب بموروثنا الشعبي.
10. الحفاظ على الزي الشعبي اليمني، وكذلك الإكسسوارات (الحُلّي).
11. إقامة دورات تدريبية في مجال الفنون الشعبية ليتعلم جيل النشء عن فنونهم الشعبية.
96.3% من المشاركين في الاستطلاع يرون أن الأزياء الشعبية اليمنية تلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع اليمني
صوت الأمل – يُمنى الزبيري اليمن بلد يتميز بموروث شعبي غني ومتنوع. يعكس هذا الموروث ت…