العنوسة قد تكون خيارًا شخصيًّا.. قصص مجتمعية في اليمن
حنان حسين – المرأة في التنمية والسلام
في المجتمعات اليمنية، الزواج يعدُّ مرحلة مهمة في حياة الرجل والمرأة، وتأخره قد يجلب ضغوطًا اجتماعية كبيرة، فالنساء مثلًا قد يواجهنَ انتقادات أو نظرات سلبية من المجتمع والعائلة، مما يزيد من شعورهنّ بالتوتر والعزلة، ويمكن أن يؤدي إلى مشاكل في الصحة النفسية، مثل القلق والاكتئاب.
بشكل عام، فإنّ تأثير تأخّر الزواج على النساء في اليمن يعتمد إلى حد كبير على الظروف الشخصية والاجتماعية المحيطة بهنّ، ويمكن أن يحمل جوانب سلبية وأخرى إيجابية.
تأخُّر الزواج في اليمن غالبًا ما يرافقه وصمة مجتمعية قاسية تجاه المرأة؛ إذ يُطلق عليها لقب (العانس) إذا تجاوزت سنَّ الـ 35 دون زواج، وهذا المصطلح يُستخدم بشكل سلبي، ويجعل النساء يشعرنَ وكأنهنّ فشلنَ في تحقيق دورهنّ الاجتماعي المتوقع، خصوصًا في المجتمعات التقليدية التي تُعدُّ فيها المرأة المتزوجة أكثر احترامًا وقبولًا اجتماعيًّا.
كما تعاني كثير من النساء اللواتي يتأخرنَ في الزواج من ضغوطات مجتمعية هائلة، فبدلاً من التركيز على إنجازاتهنّ الشخصية أو المهنية، يُحكم عليهنّ بناءً على حالة الزواج فقط، وغالبًا ما يؤدّي هذا إلى عزلة نفسية واجتماعية، خاصة إذا لم تحظَ المرأة بالدعم الأسري أو المجتمعي.
هناك بعض القصص تشير إلى نساءٍ فقدنَ دعم أسرهنّ بعد تجاوز سنّ الزواج المتعارف عليه، كما في المقابل، هناك نساء قاومنَ هذه الضغوط، ونجحنَ في تحويل تجاربهنّ إلى قصص نجاح، ورغم هذه النجاحات الفردية، تظل مشكلة الوصمة المجتمعية قائمة، وتؤثر على كثير من النساء في اليمن.
العنوسة والصراع
دفع الصراع المسلح في اليمن كثيرًا من النساء إلى سوق العمل لإسناد الوضع المعيشي لأسرهنَّ جراء التدهور الاقتصادي الذي يعيشه البلد، وفقدان أرباب الأسر لأعمالهم مع تنامي حدّة البطالة، ليصبح العمل بالنسبة للنساء الخيار الأول والمقدَّم على الزواج.
ومع تعاظم حدّة الصراع وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، كان للنساء النصيب الأكبر من هذه التداعيات، التي فرضت عليهنّ إجراء تغييرات طارئة في الأولويات.
قصة (فاطمة) ذات الثلاثين عامًا تعكس جانبًا مؤلمًا من تأثير الصراع في اليمن على حياة النساء؛ إذ فقدت أسرتها بالكامل في قصف استهدف منزلهم، ممّا غيّر مسار حياتها التعليمية بشكل جذري، وفرض واقعًا مغايرًا عليها، تقول: “الصراع جعلني أرى أحلامي مدمَّرة؛ كركام في زاوية ما كحيِّنا السكني”.
تحملت (فاطمة) مسؤوليات كبيرة في وقت لم تكن مستعدة لها نفسيًّا أو عمليًّا، ما جعل التفكير في الزواج أو الارتباط العاطفي يتلاشى من حياتها؛ إذ تضيف: “فقدت منزلي وأسرتي، واضطررت إلى تحمل مسؤوليات كبيرة، كنتُ حينها في الـ 25 عامًا، وبالتالي تضاءل اهتمامي بالارتباط”.
وتتابع: “فاتني قطار الحياة، ولم يعُد في داخلي أيّ متسع للتفكير بحياة عاطفية أو زوجية، وأصبحت أمضي متنقلة من عمل إلى آخر في بحث مستمر عن سبب لعيش حياة كريمة في وضع أمني أكثر كارثية”.
قصتها تمثل آلاف النساء اليمنيات اللواتي تأثرنَ بالصراع، ووجدنَ أنفسهنّ مضطرات لتحمُّل مسؤوليات البقاء رغم الصعاب.
الطبقية والنظرة القاصرة
“لا تتزوّج مثقفة؛ مطبخها فارغ، ومكتبتها عامرة”… بهذه العبارة ألغى خطيب (سوسن) فكرة ارتباطه بها، وقطع حبل الخطوبة؛ بحجة أنها حاصلة على درجة علمية مرموقة في مجال الحقوق، وعاملة براتب مُجزٍ، لذا لا تعدُّ صالحة للزواج، حسب نظرته.
تقول سوسن: “بعد أشهر من إعلان خطوبتنا تفاجأت برسالته وهو يقول: الزواج قسمة ونصيب، ونحن لن نكمل هذا المشوار معًا، فأنا أرفض عملك، وأفضل أن تتركي العمل، وتتفرغي لي وللمنزل. الأمر الذي رفضته تمامًا”.
هذه النظرة الدونية التي قلّلت من شأن سوسن لدى خطيبها، تقابلها نظرة دونية أخرى فَرَضت على (فاطمة)، ذات الـ (35) عامًا، الارتباط قسرًا من ابن عمها كزوجة ثانية، حتى لا تخرج الأملاك خارج العائلة؛ إذ تقول متنهدة: “تزوجت مجبرة بابن عمي بعد أن رفض أهلي كلّ مَن تقدّم لخطبتي من خارج العائلة، بحجة عدم خروج الأملاك والإرث خارج أفراد العائلة”.
وتؤكد أختها (سعاد): “رفض والدي تزويجي أنا وشقيقاتي الأربع؛ لأنّه يمتلك كثيرًا من العقارات والأملاك، وكان يرغب في تزوجينا لأبناء عمنا الذين كانوا فاشلين في دراستهم وأعمالهم، ولكنني رفضتُ ووافقتْ أختي (فاطمة) مُجبرة، لكن انتهى بها الحال إلى أن تصبح زوجة ثانية إلى جانب أربع أُخريات؛ إذ لم يمضِ عام حتى تزوّج ابن عمّنا (زوجها) ثلاث أُخريات منهنّ مَن طلقهنّ ومنهنّ من استمرّينَ معه”.
تساعد سعادُ فاطمةَ اليوم في تربية أطفالها، بعد أن عقدت العزم على رفض فكرة الارتباط القسرية التي يفرضها والدها بحجة العادات والتقاليد، كما تعمل في الخياطة لتمضية الوقت، وتقول: “ظل أبي يرفض جميع العرسان الذين يتقدّمون لي من خارج العائلة حتى تُوُفّي، وتوقعت أن يُصحح إخوتي الوضع، لكنهم أكملوا مسيرته للأسف”.
حسابات خاطئة
في قصة أخرى، تقول (نادية) ذات الثلاثين من العمر: “أنا فتاة أبلغ قدرًا من الجمال والعلم والأخلاق، وانتسب لعائلة لها مكانة مرموقة في منطقتي، وقد أكملت الدراسات العليا، وعندما كان يتقدّم لي العرسان كنت أرفضهم بأعذار مختلفة، منها رغبتي في إكمال تعليمي، ثم السعي لتحقيق ذاتي والحصول على وظيفة، بالإضافة إلى رغبتي في تطوير ذاتي ومهاراتي ودراسة اللغات”.
وتتابع: “عندما بلغت الثلاثين من عمري بدأت أشعر أنّ زميلاتي أصبحنَ أمهات، وأطفالهنّ أصبحوا في المدرسة، ولاحظت أنّى حرمتُ نفسي من الارتباط وتكوين عائلة لأعذار واهية كان من الممكن أن أنسق بينها وأقوم بها على أكمل وجه، ولم يكن صعبًا التوافق بين طموحاتي وتكوين أسرة كغيري من النساء”.
وتواصل نادية: “غادرت العمل مؤخرًا وبقيت في المنزل، وقد أصابني اليأس بسبب نظرات الشفقة التي يرونني بها داخل الأسرة؛ لأنّهم يرون (العنوسة) بالنسبة للفتاة نقصًا، والزواج إكمال نصف الدين”.
كما تضيف: “عندما أدخل مع الأسرة في جدال أو موضوع نقاشي حادٍّ فإنّ أول ما أحارب به هو عدم زواجي، ويزيد وجعي وألمي من كلامهم؛ إذ أشعر أنّ كلَّ ما قمت به من أجلهم رغم أهميته ليس مهمًّا أمام عدم تحقيقي لمشروع الزواج وتكوين عائلة، وربّما كان تأثير نظرات من حولي أكثر من حاجتي لهذه الكينونة”.
هذا الضغط النفسي أدّى إلى شعور نادية بالوحدة والعزلة، ورغم إنجازاتها الأكاديمية، فإنها تشعر بالضياع والأسف، لعدم تحقيق التوازن بين حياتها الشخصية والمهنية.
تفكير مختلف
(ليلى) فتاة يمنية رفضت الزواج برجل لا تتفق معه في الرأي، ولا يقدر طموحاتها، وقد أراد أهلها تزويجها فقط؛ لأنّه غنيّ ولديه ثروة.
واجهت (ليلى) ضغوطًا كبيرة من عائلتها التي أرادت لها الزواج بمَن تراه غير مناسب، واستمرت في التمسك بقرارها، ورغم مواجهتها للوحدة والعزلة الاجتماعية وابتعاد صديقاتها منها حتى لا تحسدهنّ على حدّ وصفها، فإنّ خوفها من المستقبل يتربص بها.
قصة (محمد سعيد) ذي الأربعين عامًا تسلط الضوء على تأثيرات البيئة العائلية والمجتمعية على مفهوم الزواج لدى بعض الرجال في اليمن، فقد عاش محمد بعد وفاة والده في وقت مبكر مع والدته التي واجهت مضايقات مستمرة من قبل العائلة والمجتمع، الأمر الذي جعل محمدًا يقرر العيش في مكان بعيد عن أسرة والده.
محمد، الذي أصبح تاجرًا ناجحًا بفضل عمله المتواصل منذ الطفولة، وصل إلى سنّ الأربعين دون زواج، رغم ضغوط والدته عليه للزواج، فإنّ تجربته العائلية دفعت به بعيدًا عن فكرة الزواج.
قصته تمثل نوعًا مختلفًا من الضغوط النفسية والاجتماعية التي تؤثر على الرجال أيضًا؛ إذ يمكن للتجارب العائلية والتحديات النفسية المبكرة أن تشكّل حاجزًا أمام رغبتهم في الزواج والارتباط، تمامًا كما تؤثر الضغوط المجتمعية والاقتصادية على النساء.
تكشف هذه القصص عن أسباب كثيرة متباينة ومتّحدة تقف وراء تأخّر الزواج لدى النساء والرجال في اليمن، غير أنّ هذا التأخير قد يحدث تداعيات تؤثر بشكل كبير على حياتهم، وتتطلب حلولًا شاملة تتضمن تغييرًا في النظرة المجتمعية إلى المرأة، وتوفير فرص عمل مناسبة، وتعزيز التعليم، وحماية حقوق المرأة.
رؤية عن تأخير سنّ الزواج في الوطن العربي
المرأة في التنمية والسلام تُسهم العديد من العادات الاجتماعية في انتشار ظاهرة العنوسة في ال…