بين الغياب والحنين.. تأثير هجرة الشباب على الأسر اليمنية
هبة محمد – صوت الأمل
في لحظة الوداع تتجلى أحلام الشباب بعيدًا عن أرضهم، تاركين وراءهم أصدقاء وأحِباء، ورُبَّما تاريخًا عريقًا من الجذور والانتماء. (هجرة الشباب) هذا المفهوم الذي يحمل في طياته تحولات اجتماعية ونفسية معقدة، تنعكس تأثيراتها بوضوح على الأسر اليمنية، محدثة تغييرات جذرية في حياتهم اليومية.
في هذا العالم المليء بالتحديات والفرص، نجد الأسر اليمنية تتأرجح بين واقع الفقد وآمال المستقبل، نتيجة رحيل شبابها نحو بلدان لا تعرف سوى أسمائها، هذه الرحلة التي تبدأ بقرار صعب وتنتهي بغياب يطول، تخلف آثارها المدوية على العلاقات الأسرية، وتطرح تساؤلات بشأن الهوية والانتماء والتضحية.
رحيل الشباب وتأثيره على الأسر
في ظل الظروف الصعبة التي يمرُّ بها اليمن نتيجة الصراعات، أصبحت هجرة الشباب ظاهرة لها تأثيراتها العميقة على الأسر اليمنية في مختلف أنحاء البلاد، تأثيرات تتراوح بين السلبية والإيجابية، تاركة بصماتها على نسيج المجتمع وحياة الأسر.
يقول الدكتور رزق الجابري (أستاذ جغرافيا السكان في جامعة حضرموت): “الأوضاع الاستثنائية التي تعيشها اليمن من صراعات ونزاعات مسلحة وعدم الاستقرار السياسي، دفعت الشباب للهجرة بطرقٍ شرعية وغير شرعية نحو البلدان العربية والأجنبية”.
ويكمل: “للأسف، لا توجد إحصاءات عن عدد الشباب المهاجرين، ولكن التقديرات المبنية على بعض العوامل يتوقع أن يصل عددهم أكثر من مليوني شباب، يتركز معظمهم في البلاد العربية ونسبة محدودة في الدول الأجنبية، وتظهر وسائل التواصل الاجتماعي والنشرات والمجلات الثقافية والمعطيات التاريخية أنّ المهاجرين اليمنيين في بلدان المهجر حققوا نجاحات كبيرة”.
مضيفًا أنه في زمن الصراعات، يجد اليمنيون أنفسهم يغادرون أوطانهم بحثًا عن لقمة عيش وكرامة، يرحلون عن أرضهم للعمل، محافظين على هويتهم وأصالتهم، في محاولة دؤوبة للبقاء مرتبطين بأصولهم رغم البعد الجغرافي.
ويوضح أنّ رحلتهم تعني بحثًا دائمًا عن الذات؛ إذ يعيشون في المهجر وسط تحديات الاندماج والحفاظ على هويتهم اليمنية، ويتمسكون بأمل العودة بكل إصرار، فالأرض بالنسبة لهم ليست مجرد مكان بل هي جزء لا يتجزأ من هويتهم ووجودهم.
مؤكدًا أنه عندما يُقهر الإنسان اليمني على أرضه، يمكن أن يجد نفسه مضطرًا للرحيل، لكن يظل رابطه بأرضه قويًّا، يغادر لينتزع حقوقه المسلوبة، ولكنه يحمل داخل قلبه وعقله الأمل الدائم بالعودة، بل وبتحقيق أبسط حقوقه وكرامته التي تجبره على الرحيل.
من جهتها أيضًا تشارك الدكتورة نادية السقاف (وزيرة الإعلام سابقًا، وباحثة في الشؤون السياسية والعمليات الديمقراطية في الشرق الأوسط) بالقول: “إنّ هجرة الشباب اليمني تؤثر بشكل عميق على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأسر في المحافظات اليمنية، خاصة في ظل النزاعات المستمرة والتحديات الكبيرة التي تواجه البلاد، خاصة على المستوى الاقتصادي، وتعتمد كثير من الأسر اليمنية بشكل كبير على التحويلات المالية التي يرسلها أبناؤها المهاجرون، هذه التحويلات أصبحت في كثير من الأحيان المصدر الرئيسي للدخل، مما يساعد العائلات على تلبية احتياجاتها الأساسية، مثل الغذاء والدواء والتعليم”.
وتواصل: “يُتهم بعض الشباب المهاجرين بأنهم تخلوا عن أسرهم أو هربوا من مواجهة التحديات في اليمن، هذا النقد يعكس حالة الإحباط واليأس التي يعيشها مَن بَقَوا في الداخل، والذين يشعرون بأنهم تُركوا لمواجهة الصراعات بمفردهم، هذه الاتهامات يمكن أن تزيد من الفجوة بين المهاجرين وأسرهم في الداخل؛ إذ يشعر بعضهم بأنّ المهاجرين يعيشون حياة أفضل، وينسون معاناة أهاليهم”.
وتنهي حديثها: “بالتالي، يمكن القول إنّ هجرة الشباب اليمني تخلق حالة من التوتر الاجتماعي والنفسي بين مَن هم في الخارج ومَن بقوا في الداخل، مما يزيد من تعقيد العلاقات الأسرية والاجتماعية، ويؤثر على الروابط المجتمعية بشكل عام”.
من جهته أيضًا، أفاد الدكتور جاسم عبد الله (أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حضرموت) أنّه مع مرور الوقت تترك الهجرة آثارًا تظهر سواء على المجتمع الذي خرجت منه هذه الهجرات، أو المجتمع الذي وصلت إليه، هذه الآثار تتنوع؛ منها ما هو إيجابي وسلبي، ويتوقف ذلك التأثير على عدة عوامل، منها: المستوى الفكري والاقتصادي والاجتماعي، والمدّة التي يقضيها هؤلاء المهاجرون في بلاد المهجر.
ويرى أنّ للدوافع الاقتصادية للهجرة تأثيرًا على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأسر في المحافظات اليمنية، وذلك بتحسين أحوالهم المعيشية، وتحقيق استقرار مادي في مساعدة أهاليهم وأقاربهم ليستثمروها بعدة أشكال، منها في الأعمال التجارية الخاصة والصغيرة، التي قد تكون في المراكز الحضرية، أو شراء الأراضي وتشييد المباني، مما يساعد على التوسع العمراني، وأنّ استثمارهم في مجال الأراضي وبناء العقارات أوجد فرص عمل لكثير من الأفراد، وهذا يدعم برامج التنمية في اليمن.
مشيرًا أنّ الهجرة أسهمت في تحسين المستوى الاقتصادي للأسر المرتبطة بهذه الهجرة، ولكنها خلقت في المجتمع نوعًا من الخمول أو التكاسل؛ إذ اعتمدت الأسر بشكل كبير على هذه التحويلات بدلًا من البحث عن مصادر دخل مستقرة.
وأوضح أن تدفق الأموال الأجنبية، وخاصة العملات التي لها قيمة أعلى مقارنة بالعملة المحلية، أدّى إلى ظهور تمايز طبقي داخل المجتمع، وأصبحت هذه الأسر أكثر استهلاكية مما كانت عليه في السابق، وفي بعض الحالات، تسببت هذه التحويلات في تقليل رغبة الأبناء في مواصلة تعليمهم؛ إذ اعتمدوا على الأموال التي تصلهم بدلًا من السعي نحو تطوير مهاراتهم العلمية والمهنية.
يقول عزيز عبد الجبار (أحد الشباب المهاجرين الذين استقروا في الصين): “إنّه في أوقات الصراعات، يجد الأشخاص المهاجرون أنفسهم مشتتين بين الأرض التي غادروها والأرض التي يحلمون بالعودة إليها، ويعيشون في حالة من الشوق المستمر، ويتمنون بشدة لحظة العودة، ولكن الحقيقة المرة تكون أكثر قسوة من أحلامهم التي تمتد مع طول استمرار النزاعات والهجرة، وتمر الأجيال، وتنبثق مشكلة الانتماء والتمسك بالهوية”.
ويواصل: “تتكرر رحلات الهجرة بين البلدان، ومع ذلك، تبقى العودة النهائية نادرة كالجوهرة، على الرغم من أن العودة غالبًا ما يُنظر إليها كخيبة أمل؛ لأنّها تحمل تحديات شتى تعكس الفشل وخيبة آمال المهاجرين، سواء في الناحية المالية، أو العاطفية، فالحنين للوطن يبقى حاضرًا بكل قوة”.
دراسات وإحصائيات
تقول الدكتورة نادية السقاف: “هناك بعض الدراسات التي تناولت تأثير هجرة الشباب على الأسر، خاصة فيما يتعلق بالتفكك الأسري، وتأثيره على النساء والأطفال، وإحدى النتائج الرئيسية التي تُوُصِّل إليها هي أنّ الهجرة قد تساعد على توفير موارد مالية للأسرة، لكنها قد تزيد من الأعباء النفسية والاجتماعية، خاصة على النساء اللاتي يضطلعن بدور مزدوج في غياب الرجال”.
ووفقًا للسقاف فإنّ التقديرات الراهنة، تُشير الأرقام إلى أن ما يزيد عن 10 ملايين فرد يمني قد استقروا في حدود 40 دولة مختلفة عبر قارات العالم، بما في ذلك آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا الشمالية، هذا التوزيع العالمي للجاليات اليمنية يُسهم في تحويلات مالية تقدر بنحو 3.4 مليار دولار أمريكي سنويًّا، تصل إلى اليمن، مما يمثل موردًا مهمًّا للاقتصاد المحلي والاستقرار الاجتماعي داخل البلاد.
من جهته أيضًا يقول الدكتور جاسم: “تحتاج الدراسات المحلية في اليمن إلى تعمق أكبر في تحليل ظاهرة الهجرة، وخاصة هجرة الشباب وتأثيراتها، وإلى وضع إستراتيجيات علمية للتعامل مع هذه الظاهرة بشكل فعّال، ويجب تعزيز التعاون بين الحكومة والجهات المختصة، وإنشاء قواعد بيانات دقيقة لتسهيل دراسة الهجرة والنزوح بشكل علمي وواقعي”.
ويواصل: “هناك عدة دراسات تركز على تحليل دوافع الهجرة، وتحديد الفئات المعرضة لها، فقد أشار موقع “Global Economy”، المتخصص في الآفاق الاقتصادية، إلى ارتفاع معدلات هجرة الكفاءات والكوادر العلمية في العالم العربي، وهذا الارتفاع يعكس تزايد هجرة الكفاءات نتيجة للأوضاع الصعبة داخليًّا، وبحسب التقرير، جاءت سوريا في الصدارة بمعدل (8.1)، تلتها المغرب بـ (7.4)، وجاءت اليمن في المرتبة الثالثة بمعدل (6.7) على الجانب الآخر، كانت قطر أقل الدول العربية تأثرًا بالهجرة للكفاءات العلمية”.
جسور الحنين
في رحلة محفوفة بالتحديات والأمل، يعيش الشباب المهاجرون تجربة استثنائية ترسمها حوالات نقدية تصل إلى الأسر اليمنية من أبنائهم في بلاد الغربة، هذه الحوالات ليست مجرد تحويلات مالية، بل هي روابط حية تربط بين الطموح والواقع، بين الجدية في بناء مستقبل أفضل وبين شوق الانتماء والحنين للأصول.
إن كنت تعيش في اليمن ستجد قصصًا متعددة تجمع بين الألم والأمل، في بلد فيه أكثر من 7 ملايين يمني منتشرين في القارات الست حسب مصادر رسمية وغير رسمية، بالمقارنة مع إجمالي السكان البالغ أكثر من 30 مليون نسمة، ليعيش ما يقارب نصف الشتات في دول الخليج، وبشكل رئيسي في المملكة العربية السعودية.
فاطمة امرأة كبيرة بالسن وأم لسبعة أولاد، ثلاثة منهم مغتربون في الخارج، واحد منهم في السعودية وآخران في ماليزيا وهولندا، والأربعة الآخرون توفوا في الصراعات، تجدها نهاية كل شهر تقف أمام بنك الكريمي تستند على عصاها الحديدية، وسط طابور كبير من النساء والأمهات، في انتظار حوالات أبنائها على نوافذ بنوك الصرافة.
تقول فاطمة: “على الرغم من الشوق والحنين لأولادي الثلاثة، ورغبتي في أن أراهم بجانبي ولو لساعه واحدة، فإني أتذكر كيف سيكون حالهم إن كانوا في اليمن، كان من الممكن أن يلحقوا بإخوتهم إلى الآخرة”.
وتؤكد فاطمة أنها تعيش وتصرف وتتحمل مسؤولية بناتها، ومستلزمات المعيشة؛ من إيجار بيت، وكهرباء، وماء، بفضل أولادها الذين تنتظر حوالاتهم النقدية بفارغ الصبر شهريًا، ومنه تسدد جزءًا من الديون التي عليهم.
وحينما أخذتها للحديث على جنب بعيدًا عن الزحمة، فجأة رأيتها تمسح دموعها المنهارة من عيونها التي يرتسم فيها شوق كبير لأولادها، وعندما سألتها هل بإمكانهم العودة لرؤيتك؟ تنهدت فاطمة للحظات! للأسف لا يمكنهم العودة؛ أحدهم سلّم جوازه لمطار هولندا ودخل فيها لاجِئًا، والآخر عليه ديون كثيرة، والثالث بسبب معاملة كفيله في السعودية بشكل قاسٍ، لم يسمح له الخروج والعودة مجدّدًا.
وتشير فاطمة إلى أنها من تتحمل مصاعب الحياة وحدها، على الرغم من الشيب الذي بدأ يلتهم صحتها. بعد أن تُوفِّي زوجها، وهاجر أولادها، ليست فاطمة وحدها من تتكبد تلك التحديات، فهي قصة واحدة من بين آلاف التفاصيل التي تلمحها في وجوه تلك النساء الواقفات بلهفة أمام بنوك الصرافة ينتظرن تلك الأوراق النقدية، التي من أجلها تفككت كثير من الروابط الاجتماعية، ويحملنَ معهم جسور الحنين وأمل العودة.
تحديات اللجوء والتكاليف الباهظة
يقول المهاجر عبد الجبار: “إنَّ العيش كلاجئ سياسي يمني، لا يُمكنك من العودة إلى اليمن ولا لقاء الأهل، هذا يجعل الأمر صعبًا وشاقًّا، فالتكاليف الباهظة المطلوبة للعودة إلى اليمن، التي قد تصل إلى ألفي دولار وما فوق، تضع العديد منهم في مأزق مالي لا يُحتمل”.
وأضاف: “الأموال القليلة التي يكسبونها بصعوبة تكاد تكفي لتوفير أساسيات العيش؛ مثل الطعام والشراب والسكن، بالإضافة إلى إرسال مبالغ مالية إلى عائلاتهم المتضررة. وللأسف، يتعرض بعضهم لفقدان أقرب الأقارب، مثل الوالدين، دون أن يستطيعوا العودة لوداعهم، ما يتركهم في حالة من الحسرة والألم اللافت”.
مؤكدًا أنه من المؤلم أن يعيش كل يمنيٍّ مهاجرٍ خوفًا مستمرًا من التخلي عن دراسته ومشاريعه ومستقبله الذي بناه في الخارج؛ من أجل العودة إلى أهله؛ فالقرار بالعودة يعدُّ قرارًا صعبًا يحمل في طياته تضحيات كبيرة ومخاطر لا يستهان بها.
تحديات تواجه الأسر اليمنية
عن التحديات الرئيسية التي تواجه الأسر اليمنية نتيجة هجرة الشباب، يقول الدكتور جاسم عبد الله عوض: “تتعرض حياة الأسرة لحالات القلق والاضطراب الذي قد يؤدي إلى الحالات النفسية والإصابة بالأمراض، ومعاناة الأسرة من الحرمان والنقص العاطفي بسبب طول مدة الهجرة التي قد تصل من عام إلى عامين، وقد تصل لدى بعضهم إلى أكثر من عامين”.
ويكمل: “زيادة الأعباء على المرأة بتحملها الأدوار كافة لرعاية الأبناء، وتأخر سن الزواج بالنسبة للفتيات بسبب هجرة الشباب، ينتج عنه انتشار العنوسة لدى الفتيات، كذلك استمرار غياب المهاجر ولمددٍ طويلة وخاصة المتزوجين يؤثر بدرجة رئيسية على العلاقات الزوجية التي قد تصل إلى الانفصال”.
وذكر أيضًا أنّ هجرة الزوج لمدّة طويلة يجعل المرأة تعاني من صعوبة قيامها بمختلف واجبات الزوج المهاجر ومسؤولياته، مما يضعف سلطة الزوج المهاجر نتيجة لطول غيابه، وغياب الزوج المهاجر يفقد الأبناء القدوة الحسنة.
مشيرًا إلى أنّ ذلك يؤدي إلى تراجع نسبة المواليد وانخفاضها بشكل كبير، وأيضًا تغيرات تطرأ على علاقة الزوج والزوجة ترتبط بطول مدّة هجرة الزوج، وضعف المشاعر والأحاسيس بينهما.
الشباب في الهجرة؛ بين البحث عن فرص عمل ومواجهة التحديات
أحمد باجعيم – صوت الأمل الهجرة إلى الخارج أصبحت فعلًا واحدة من أبرز الظواهر بين الشب…