نافذة على الثقافة والمجتمع في تحسين رعاية الصحة الإنجابية
هبة محمد – المرأة في التنمية والسلام
في قلب كلّ مجتمع تنسجم خيوط التقاليد والقيم مع تطلعات الرعاية الصحية الحديثة، وفي اليمن، تتجلى تلك التضاريس بوضوح في تفاعل العوامل الاجتماعية والثقافية التي تحكم قبول المجتمع بتقديم الرعاية الصحية للمرأة، ولا شكّ أنّ الضغوط الاجتماعية، وتدخل العائلة، وضرورة تعزيز الوعي الثقافي تشكّل نقاط تصادم وتفاعل يحدد مدى اندماج المرأة في نسيج الرعاية الصحية.
هذا الموضوع المعقد يستحق تفكيكًا دقيقًا وتحليلًا شاملًا للعوامل التي تؤثر على تقبل المجتمع بتأمين الرعاية الصحية اللازمة للنساء، وذلك عبر فهم عمق الضغوط الاجتماعية، ودور التدخل العائلي، وأهمية تعزيز الوعي الثقافي، ويمكننا رسم صورة أوضح للتحديات التي تواجه الرعاية الصحية للمرأة في هذا السياق اليمني الفريد.
ـ العوامل الاجتماعية والثقافية
في سياق الرعاية الصحية للمرأة، تتداخل العوامل الاجتماعية والثقافية بشكل معقد لتحدد مدى قبول المجتمع والتزامه بتلبية احتياجات الرعاية الصحية للنساء، ويتضمن ذلك الضغوط الاجتماعية، والتدخل العائلي، والوعي الثقافي كعوامل رئيسية تؤثر على ذلك القبول.
تقول الدكتورة زهراء السوسوة، مختصة في الصحة الإنجابية: “في الثقافة اليمنية، تُعدُّ المرأة مسؤولة بشكل رئيسي عن الأسرة والمنزل، ممّا قد يحدُّ من قدرتها على الوصول إلى الرعاية الصحية، والانشغال بالأعمال المنزلية والأطفال، وقد يؤخّر أو يمنع النساء من الحصول على الرعاية اللازمة لأنفسهنّ”.
وتشير إلى أنّ القيود الاجتماعية في بعض المجتمعات اليمنية، قد تقيّد حركة المرأة، مما يعوق حصولها على الرعاية الصحية اللازمة، خاصة إذا كانت المراكز الصحية بعيدة، أو تديرها كوادر صحية ذكورية، وهذا يشمل أيضًا الحواجز المتعلقة بالعادات الاجتماعية، مثل ضرورة مرافقة الرجل.
وتؤكد أنّ نسبة الأُمية المرتفعة بين النساء في اليمن تؤدي إلى نقص في الوعي الصحي، ممّا يعني أنّ النساء قد لا يعلمنَ بأهمية الرعاية الصحية الدورية أو كيفية الوصول إليها، كما أنّ بعض المعتقدات التقليدية قد تشجع على الاعتماد على العلاجات المنزلية أو الشيوخ بدلًا من طلب الرعاية الصحية الحديثة.
ولفتت أيضًا إلى أنّ التمييز الجندري في المجتمع اليمني يؤثر على الأولويات الصحية؛ إذ قد تُفضّل الرعاية الصحية للرجال على حساب النساء، هذا قد يظهر في الأولويات العائلية عند اتخاذ قرارات تتعلق بالصحة والإنفاق على الرعاية الطبية.
وتذكر أنّ بعض المعتقدات الدينية والثقافية قد تؤدي إلى التردد في قبول بعض أنواع الرعاية الصحية، مثل الرعاية الإنجابية أو النفسية، كما أنّ هناك تحفظات على استخدام وسائل منع الحمل أو الولادة في المستشفيات بدلًا من الولادة المنزلية.
هذا ما أكدته إيمان عبد الله، التي تعاني من صرع في رأسها، ويعاودها المرض في كثير من الأحيان فتسقط أرضًا، وتغيب عن الوعي لساعات، فقد نصحَ كثير من الناس والديها أن يبتعد عن الذهاب للمستشفيات والمراكز الصحية، واللجوء للطب البديل وهو العلاجات العشبية، بالإضافة إلى الذهاب إلى مشايخ الدين هروبًا من تكاليف المشفى المرتفعة.
من جهتها -أيضًا- أضافت الدكتورة سمر عبد الفتاح: “أن الظروف السياسية والاقتصادية تؤثر في توفير الرعاية الصحية بشكل عام، ولكن النساء يتحملنَ العبء الأكبر؛ بسبب تأثير الفقر في قدرتهنّ على الوصول إلى المرافق الصحية، خاصة في المناطق الريفية”.
فقد واجهت رحاب (شابة في الثلاثين من العمر) مصيرها لوحدها مع ورم مفاجئ لها في الدماغ؛ إذ تقول: “أنا أعيش مع عائلة فقيرة جدًّا بالكاد توفر مستلزمات المعيشة، وأعدُّ البنت الوحيدة من بين أربعة بنين، وبسبب الظروف الاقتصادية الصعبة لم تجد أسرتي الفرصة الكافية للاهتمام بصحتي التي تدهورت يومًا بعد آخر، فقط يقدّم الاهتمام والرعاية لإخواني الصغار الذين هم في نظر العائلة السند لنا في المستقبل، وأُفاجأ مع مرور السنوات أنّي مصابة بالسرطان”.
مؤكدة أنّ الدعم من الأسرة والمجتمع يمكن أن يعزّز أو يعوق قدرة المرأة على الوصول إلى الرعاية الصحية اللازمة، إذا كانت الأسرة تؤمن بأهميتها، فقد تشجع المرأة على تلقي العلاج.
وحسب الدكتورة سمر عبد الفتاح فإنّ طريقة تقديم المعلومات الصحية وكيفية تواصل مقدمي الرعاية الصحية مع النساء يمكن أن تتأثر بالقيم الثقافية، مما يؤثر على تقبل النساء للخدمات، وأنّ بعض المعتقدات الدينية قد تؤثر على كيفية رؤية المجتمع للرعاية الصحية؛ إذ يمكن أن تُعد بعض الإجراءات الطبية غير مقبولة دينيًّا.
تدخل العائلة
تدخل العائلة يمكن أن يكون له تأثيرات إيجابية وسلبية على توجيه المرأة نحو الرعاية الصحية، ذكرت سمر عبد الفتاح أنّه من الناحية الإيجابية يمكن أن يوفّر أفراد العائلة الدعم العاطفي والتشجيع للنساء لطلب الرعاية الصحية، ممّا يعزّز من ثقتهنّ في اتخاذ القرارات المتعلقة بصحتهنّ.
وأضافت: “يمكن أن يساعد الأفراد في الأسرة على الوصول إلى المرافق الصحية، سواء عبر توفير وسائل النقل أو المرافقة إلى العيادات، وأيضًا في نشر المعلومات الصحية الصحيحة، مما يساعد النساء على فهم أهمية الرعاية الصحية والوقاية من الأمراض، ويؤدي دعم العائلات لتعليم الفتيات إلى زيادة الوعي الصحي، وتحفيز النساء على اتخاذ قرارات صحية مستنيرة”.
وعن التأثيرات السلبية لتدخل العائلة تشير (السوسوة) إلى أنّ المعتقدات والتقاليد السلبية في الأسرة تؤثر في تصور النساء للصحة، مثل عدّ بعض المشاكل الصحية “عيبًا” أو “وصمة”، وقد تتبنى بعض الأسر مواقف تمييزية تمنع النساء من طلب الرعاية الصحية، مما يؤدي إلى تقييد حركتهنّ وحقوقهنّ.
وتأسف أنّ كثيرًا من النساء تتعرض لضغوط من أفراد الأسرة لعدم زيارة الأطباء أو لتجنب بعض الإجراءات الطبية، مما يؤثر سلبًا على صحتهنّ، وقد يكون الرجال هم من يتخذون القرارات الصحية، ممّا يحدُّ من قدرة النساء على اتخاذ خيارات صحية بأنفسهنّ.
وتنهي حديثها بالقول: “يتوقف تأثير التدخل العائلي على طبيعة العلاقة داخل الأسرة والقيم التي تحملها، عندما تتبنى العائلة موقفًا داعمًا، وتفهم أهمية الرعاية الصحية، يكون التدخل إيجابيًا، ولكن عندما تتداخل المعتقدات الثقافية أو الأدوار الجندرية التي تفرض قيودًا، يمكن أن يكون التدخل العائلي سلبيًّا، ويحول دون حصول المرأة على الرعاية اللازمة”.
من جهته -أيضًا- يرى أستاذ علم الاجتماع الطبي، الدكتور محمود البكاري، أنّ العائلة تلعب دورًا كبيرًا في تأمين الرعاية الصحية للمرأة سلبًا وإيجابًا، بحسب المستوى التعليمي ودرجة التحضر والمستوى الاقتصادي والمعيشي، مؤكدًا أنّ هناك كثيرًا من العائلات أصبحت تدرك أهمية الرعاية الصحية للمرأة، سواء عن طريق الحرص على متابعة الطبيب، وخاصة أثناء الحمل أو الولادة، واتّباع الأساليب الصحيحة في ذلك، أو عن طريق التغذية السليمة، وتنظيم عملية الإنجاب، ومساعدة المرأة في بعض الأعمال التي تؤثر في صحتها الجسدية والنفسية.
منظومة العادات والتقاليد
يقول البكاري: “الحقيقة أنّ منظومة العادات والتقاليد الاجتماعية لا تزال تؤثّر بشكل كبير في الصحة والمرض في المجتمع اليمني، وذلك بسبب ترسخ الأمية وتفشيها، وضعف الوعي الصحي لدى أفراد المجتمع عمومًا والمرأة تحديدًا؛ إذ ينظر لها على أنّها ليس من حقها الحصول على الرعاية الصحية الكاملة، والعناية والاهتمام، وخاصة أثناء الحمل؛ لأنّ ذلك يعدُّ ضمن ما يسمى بالتدليل أو الدلع الذي يفسد حياة المرأة”.
مشيرًا إلى أنّ العادات والتقاليد الاجتماعية تلزم المرأة أن تكون خشنة تصبر وتحتمل المشقة والتعب، سواء في بيت الأسرة أو الزوجية، والدليل على ذلك عملية الإنجاب السريع والمتواصل، دون مراعاة لأي ظروف ومخاطر صحية على المرأة.
مؤكدًا أنّ بعض المناطق اليمنية تعدُّ ذلك شرطًا أساسيًّا في المرأة، كونها (امرأة ولّادة) كما يسمونها في بعض المناطق؛ أي كثيرة الإنجاب، وقادرة على تحمل مشاقّه ومخاطره، إضافة إلى أنّ هذه المنظومة من العادات والتقاليد الاجتماعية تفرض على المرأة أن تأكل فقط ما يفيض من أكل الرجال من الطعام، وكأنها ليست بشر بحاجة إلى التغذية السليمة شأنها شأن الرجل.
الوعي الثقافي
يؤكد كثير من الباحثين في مجال الاجتماع والطب أنّ تعزيز الوعي الثقافي بأهمية الرعاية الصحية للمرأة في المجتمع ضرورة حتمية، خاصة في مجتمع كاليمن تحكمه عادات وتقاليد اجتماعية تحدُّ من الرعاية الصحية للمرأة.
وتشير الدكتورة سمر عبد الفتاح إلى ضرورة تنظيم ورش عمل ومحاضرات توعوية بشأن أهمية الرعاية الصحية للمرأة، تشمل مواضيع مثل: الصحة الإنجابية، والحمل، والوقاية من الأمراض، وإشراك القادة المحليين والشخصيات المؤثرة في المجتمع لتعزيز الرسائل الصحية، مما يسهل الوصول إلى الجمهور.
مضيفة أهمية إنشاء مراكز صحية تقدّم خدمات متكاملة للمرأة، مما يسهل وصول النساء إلى الرعاية الصحية، وتوفير تدريب مستمر للعاملين في مجال الصحة بشأن كيفية التعامل مع قضايا صحة المرأة بطريقة حسّاسة وفعّالة.
تحديات
يعكس الإحصاء الذي أجرته منظمة اليونيسف 2019م، الذي يظهر أنّ أقل من 50% من حالات الولادة في اليمن تجرى تحت إشراف متخصصين صحيين – حجم التحديات الصحية الهائلة التي تواجه النساء والأطفال في هذا البلد، بالإضافة إلى ذلك، تكشف التقارير عن حقيقة مروّعة؛ إذ تفقد أم وستة مواليد حياتهم كل ساعتين في اليمن، بسبب مضاعفات يمكن تجنبها في ظل توفر الرعاية الطبية الكافية والملائمة.
وأيضًا وفقًا لتقرير (الوضع الإنساني في اليمن) الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان في عام 2024م، يحتاج ما يقرب من 17.8 مليون فرد من السكان إلى دعم في مجال الرعاية الصحية، ويوجد من بينهم ما يقارب 5.5 مليون امرأة في سن الإنجاب، يواجهنَ صعوبات في الوصول إلى خدمات الصحة الإنجابية، ومن المتوقع أن يحتاج ما يقارب 2.7 مليون امرأة حامل ومرضع إلى علاج سوء التغذية الحاد، و يُظهر الواقع أنّ واحدة فقط من كل خمسة مرافق صحية في البلد، تقدّم خدمات الأمومة والطفولة الصحية، مما يجعل الحاجة الماسة لرعاية صحية ذات كفاءة عالية أمرًا حيويًّا.
إن السبب الرئيسي وراء هذه الوفيات المأساوية يعود إلى نقص الفرص للوصول إلى الخدمات الصحية الضرورية، وضعف الرعاية الصحية المقدمة في اليمن، هذا الوضع يستدعي تدخُّلًا عاجلًا وفعّالًا من المجتمع الدولي والجهات المعنية لتحسين البنية التحتية الصحية، وتعزيز الوعي الصحي، وتوفير الرعاية الطبية اللازمة للنساء والأطفال في اليمن، بهدف الحدّ من هذه الوفيات المأساوية، وتحسين حياة السكان.
المجتمع اليمني؛ آراء متعددة عن الصحة الإنجابية في اليمن
حنان حسين – المرأة في التنمية والسلام تعدُّ الصحة الإنجابية إحدى القضايا الأس…