صراعات مستمرة وآثار مروعة على الصحة النفسية للأفراد في اليمن
هبة محمد – صوت الأمل
في قلب اليمن، تدور صراعات مروعة تترك آثارًا مدمرة لا يمكن تجاهلها، لكن هل فكرنا يومًا في الآثار الخفية لهذه النزاعات؟ هل تساءلنا عن تأثيرها القاتل على الصحة النفسية للأفراد؟!
تستمر الصراعات في التسبب بالخراب المادي والخسائر البشرية، ولكن الصحة النفسية تبقى قصة مختلفة تمامًا، فالنزاعات الدامية في اليمن تركت جروحًا عميقة في النفوس يصعب شفاؤها ويمكن أن تستمر لسنوات بعد انتهاء الصراعات.
القلق، الاكتئاب، الصدمة، والاضطرابات النفسية الأخرى، جميعها أصبحت ظواهر شائعة بين اليمنيين؛ إذ يعيشون حالة من عدم الأمان المستمر، معرضين للخطر والتهديد، وفي كل لحظة تعاني الأسر من فقدان الأحبة والتشرد، ويتعرض الأطفال لصدمات لا يمكن تصورها بسبب العنف والدمار من حولهم.
إن الآثار النفسية الضارة للنزاعات في اليمن تمتد بعيدًا عن المعاناة الجسدية؛ إذ تؤثر النزاعات على الثقة بالنفس والعلاقات الشخصية والقدرة على التعبير عن المشاعر والتعامل مع التحديات اليومية، وتقتحم الصراعات الصامتة العقول وتتسلل إلى الروح؛ مما يؤدي إلى تدهور الصحة النفسية للأفراد وتفاقم الأمراض النفسية الموجودة بالفعل.
خدمات الصحة النفسية قبل الصراع
وفقاً لدراسة صادرة عن مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، بعنوان “أثَرُ الحرب على الصحة النفسية في اليمن: أزمة مهملة” للعام2017م، فإن هناك معلومات محدودة وغير موثقة متوفرة حول خدمات الصحة النفسية في اليمن قبل الصراع، لكن البيانات المتاحة تشير إلى نقص المؤسسات ذات الصلة وسوء جودة الخدمات المقدمة. ووفقًا للإستراتيجية الصحية الوطنية لعام 2010م، يوجد فقط 44 طبيبًا نفسيًا في اليمن من بين 8,500 طبيب.
وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2011 إلى وجود 4 مستشفيات للصحة النفسية في اليمن، مع وجود 0.21 طبيب نفسي و0.17 مختص نفسي لكل 100,000 شخص، فيما يوجد في الولايات المتحدة 12.40 طبيب نفسي و29.03 مختص نفسي لكل 100,000 شخص، وفي النرويج هناك 29.68 طبيب نفسي و54.28 مختص نفسي لكل 100,000 شخص. ولم يتم تضمين أحدث بيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2014 حول عدد العاملين في مجال الصحة النفسية في اليمن.
وأشارت الإستراتيجية الوطنية للصحة النفسية في اليمن إلى وجود 19 منشأة للصحة النفسية في البلاد، بما في ذلك المستشفيات والعيادات والمنشآت الصحية في السجون. ويبدو أن هناك تناقضًا بين هذه البيانات وبيانات منظمة الصحة العالمية، مما يعزز صعوبة الحصول على معلومات موثوقة حول خدمات الصحة النفسية في اليمن قبل الصراع.
وأضافت الدراسة أيضًا أن من الصعب العثور على منشورات مفصلة حول دور المُعالِجين التقليديين والشيوخ وآخرين في تقديم الرعاية الصحية النفسية والدعم الاجتماعي للسكان في اليمن قبل النزاع؛ إذ يقوم المعالجون التقليديون بتقديم الرعاية بشكل رئيسي للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات صحية نفسية، وعادة ما يلجأ الناس إلى العلاج النفسي الرسمي في حالات خطيرة مثل الفصام والذهان.
كما أشارت المختصة النفسية الدكتورة فضيلة الشعيبي إلى أنه قبل اندلاع الصراع في اليمن كان هناك العديد من العوامل التي تؤثر على جودة الرعاية المتاحة؛ إذ تتراوح جودة الخدمات المتاحة بين محدودية المنشآت ونقص المحترفين المؤهلين، ويواجه الأشخاص في اليمن الكثير من الصعوبات في الحصول على رعاية متخصصة، خاصةً لفئات معينة مثل النساء والأطفال والمراهقين وكبار السن، وأولئك الذين يعانون من حالات مزمنة أو من الإدمان.
وتضيف: “تفتقر الرعاية الصحية الأولية في اليمن إلى تضمين الصحة النفسية كجزء أساسي، مما يعني أن الكثير من الناس يجدون صعوبة في الوصول إلى العلاج المناسب عند التواصل مع النظام الصحي للمرة الأولى، على الرغم من وجود بروتوكول رسمي تم وضعه عام 2009 لتوحيد تشخيص الصحة النفسية وتقييمه وعلاجها بواسطة أساتذة الطب النفسي في الجامعات، فإن تطبيقه يعاني من تقصير في العديد من الحالات. بالإضافة إلى ذلك، ما يزال ثمن الأدوية مرتفعًا بالنسبة لغالبية السكان، وما يزال العلاج الكهربائي يستخدم على نطاق واسع”.
أثَرَ الصراع على الصحة النفسية
تعيش اليمن حاليًا حقبة من صراع دامٍ ومستمر، ولا يُستهان بآثار هذا الصراع الطويل على الصحة النفسية للسكان؛ فمنذ بداية النزاع تعرضت اليمن لتحديات هائلة في مجال الصحة النفسية، وتفاقمت الأزمة يومًا بعد يوم، مما يستدعي الانتباه إلى هذه القضية المهمة وتأثيرها المهول على الناس في المجتمع اليمني.
يقول الدكتور علي راجح -استشاري نفسي ورئيس وحدة التدريب والبحوث بمركز الإرشاد النفسي، جامعة إب-: “بين ما قبل الصراع والوقت الحالي، كانت هناك محاولات لزيادة الاهتمام بالصحة النفسية، حتى أتى الصراع وزاد الوضع سوءًا، وزادت الحاجة إلى المزيد والمزيد من المستشفيات والمراكز المتخصصة، وكذلك الكادر المتخصص. ورغم هذا الاحتياج البالغ، لم يتم المضي بما يوفي بذلك”.
وبحسب تقرير وزارة الصحة العامة والسكان في صنعاء للعام 2020-2021م نجد أن عدد الأطباء النفسيين اليوم هو 59 طبيبًا فقط، أي بمعدل طبيب واحد لكل 505,084 نسمة، وعدد الأَسِرَّة في اليمن لا يتجاوز 990 سريرًا بمعدل 3 أسرة لكل 100,000 نسمة. بالإضافة إلى تدنٍ حاد في المستلزمات والأدوية الخاصة بالاضطرابات النفسية والعقلية، ونقص في العاملين والمختصين النفسيين، بحسب التقرير ذاته.
وأشارت دراسة نفذتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري، في المدة ما بين مارس 2015 إلى يونيو 2017م، أن نسبة انتشار الاضطرابات النفسية بين أوساط اليمنيين المتضررين من الصراع ازداد بحوالي 19.5%، وأن معدل الانتشار بلغ 195 في كل1000 حالة، وهو ما يترك آثارًا كارثية على المدى القريب والبعيد.
وبحسب الدكتور راجح، يبلغ إجمالي نسبة عبء الاضطرابات النفسية، التي تم قياسها بناءً على سنوات العمر المصححة لمدة العجز، 7.4%. وتصل نسبة العجز الناتج عن الاضطرابات النفسية إلى 22%، وهي واحدة من أعلى نسب العجز فيما يتعلق بالأمراض النفسية. يتنبأ هذا الوضع بوقوع كارثة إنسانية في المقام الأول.
وأضاف: “أيضًا، يتحمل الاقتصاد الوطني عبئًا ثقيلاً من تكاليف معالجة الآثار النفسية المباشرة وغير المباشرة على ما يقرب من 5 ملايين متضرر نفسيًا، وفقًا للدراسة المذكورة سابقاً”.
ويتابع: “لا يمكننا تجاهل موضوع مهم مثل الصحة النفسية في بلد مثل اليمن، التي تشهد صراعات مستمرة لعدة سنوات، فيما تعاني من نقص واضح في الخدمات الصحية. وعند النظر إلى الإحصائيات المتاحة، يظهر أن اهتمام الجهات المعنية بالصحة النفسية لا يتوافق مع حجم التحديات التي تواجهها البلاد نتيجة للصراعات؛ وهذا يجعل الوضع خطيرًا، بل وأكثر خطورة”.
ويوضح أنه على الرغم من الجهود التي تبذلها المنظمات والمؤسسات المعنية، فإنها ما تزال بعيدة عن تلبية الاحتياجات الفعلية. ففي عام 2022، تعاونت منظمة الصحة العالمية مع وزارة الصحة لتطوير أول إستراتيجية وطنية للصحة النفسية منذ عام 2010، وهي تهدف إلى توفير نظام شامل ومتاح للرعاية الصحية النفسية في اليمن.
وحسب تقرير المركز الإعلامي لمنظمة الصحة العالمية 2024، تقدر الأعداد الهائلة للأفراد الذين يعانون من صدمات نفسية وإجهاد ناجم عن الصراع المستمر في اليمن بما يقارب 7 ملايين شخص، أي ما يعادل ربع سكان البلاد تقريبًا. ورغم حاجتهم الملحة للدعم الصحي النفسي، فإن عدد الأفراد الذين يمكنهم الوصول المستمر إلى الخدمات يبلغ 120,000 فردًا فقط.
تحديات الصحة النفسية في اليمن
أدت الصراعات والنزاعات المستمرة، وتدمير البنية التحتية ومعاناة الفقر وقلة مصادر الدخل، إلى تدهور الصحة النفسية وازدياد حالات القلق والاكتئاب التي قادت بعض الأفراد إلى الانتحار. ويُرجع كثير من المستطلَعين العوامل المتسببة في تدهور الصحة النفسية للمواطن إلى عدة أسباب، منها الفقر وضعف الدخل.
وبحسب عددٍ من الدراسات حول الصحة النفسية في اليمن، منها مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية 2017، فإن التعرض المتكرر للعنف وانعدام الأمن ونقص الغذاء والفقر، وصولًا إلى تحطم الروابط الاجتماعية، جميعها تشكل ضغوطًا هائلة على اليمنيين وتُفَاقِم من تدهور الصحة النفسية. ويوضح تقرير “تقييم الحرب على التنمية في اليمن”، من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2020، أن 45% من السكان فقدوا مصادر دخلهم الرئيسية بسبب النزاع، وهذا كان من أسباب تدهور الصحة النفسية.
أيضًا، يعد النزوح والوصمة الاجتماعية من أهم العوامل الناتجة عن الصراع؛ فنتيجة للخسائر المادية التي تقدر بـِ181 مليار دولار، بحسب تقرير الأوتشا فبراير 2021، بلغ عدد النازحين 4 ملايين نازح؛ وهذا سبَّبَ أزمات نفسية مختلفة.
تفيد حليمة أسعد -مختصة نفسية- من خلال عملها في مخيمات النازحين على مستوى بعض المحافظات، أن كثيرًا من المرضى يرفضون الذهاب إلى المراكز الصحة النفسية بسبب وصمة العار الاجتماعية والخوف من ردة فعل المجتمع التي تطلق على الشخص الذي يذهب للعلاج النفسي بأنه “مجنون”.
من جهتها تشارك المعالجة النفسية، الدكتورة مرسلة العواضي، بالقول: “في ضوء الصراع الذي تشهده اليمن، يظهر أن الصحة النفسية للسكان تعاني من تأثيرات سلبية واسعة النطاق. ورغم نقص البيانات الشاملة، فإن المعلومات الحالية تشير إلى أن العديد من الأفراد يعانون من تحديات نفسية واجتماعية وعاطفية”.
وذكرت الشعيبي أن الدراسة التي أجرتها Epos للاستشارة والخدمات الصحية، بدعم من مفوضية الاتحاد الأوروبي وبالشراكة مع وزارة الصحة، أشارت إلى أن 42% من سكان اليمن في عام 2019 عانوا من اضطرابات نفسية مختلفة، منها الاكتئاب بنسبة 27%، والقلق بنسبة 25%، والفصام 18%، والرهاب 4%.
69.2% من المشاركين في الاستطلاع قالوا إنهم عانوا بالفعل من أعراض الاضطرابات النفسية
إعداد: يُمنى الزبيري الصحة النفسية -حسب تعريف منظمة الصحة العالمية لها- حالة من العافية يس…