التنشئة الأسرية.. حجر الأساس لصحة الفرد النفسية
أفراح بورجي – صوت الأمل
تقوم الأسرة بدور محوري في تنمية قدرات الفرد وصحته النفسية، فهي البيئة الأولى التي ينشأ فيها ويتلقى منها أولى انطباعاته عن العالم. وتعد الأسرة السليمة، التي تتمتع بعلاقات قوية وتواصل فعال، أساسًا لنمو فرد سوي يتمتع بصحة نفسية جيدة.
ففي هذه البيئة، يشعر الفرد بالأمان والحب والقبول، مما يساعده على تطوير ثقته بنفسه واكتساب مهارات التفاعل الاجتماعي. وفي المقابل، الأسرة المتفككة، أو التي تعاني من مشاكل عائلية، تؤدي إلى تراكمات سلبية تؤثر على صحة الفرد النفسية في المستقبل.
وبناءً على ما ذكر، يستعرض الدكتور أيمن علوان -اختصاصي مخ وأعصاب وطب نفسي- ثلاثة عوامل رئيسة تؤدي إلى حدوث الاضطرابات النفسية للفرد:
أولاً: العوامل الوراثية، التي لا يمكن السيطرة عليها؛ إذ تنتقل الجينات المرتبطة بالأمراض النفسية بين أفراد الأسرة الواحدة.
ثانيًا: العوامل الأسرية، وهي عوامل قابلة للتدخل والوقاية. ويشمل ذلك: غياب الأم، الخلافات بين الوالدين، الطلاق، تشرد الأبناء، أساليب التربية السيئة كالمقارنة بين الأبناء والانتقادات، سوء المعاملة الجسدية والنفسية والجنسية للطفل، إضافة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة للأسرة.
ثالثًا: العوامل المجتمعية، مثل الكوارث والصراعات والأوضاع الاقتصادية السيئة للمجتمع ككل، وهي قد تؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية للأفراد.
وأكد الدكتور علوان أهمية التركيز على العوامل الأسرية والمجتمعية، التي يمكن التدخل فيها للوقاية من الاضطرابات النفسية أو التخفيف من حدتها، على خلاف العوامل الوراثية التي لا يمكن السيطرة عليها.
آراء مجتمعية
يقول سلطان المقطري: “بلا شك، تشكل الأسرة أحد أهم العوامل المؤثرة على شخصية الفرد وسلوكياته؛ فمن خلالها يكتسب الأطفال العديد من الخبرات والمهارات والعادات والقيم الأخلاقية، التي تسهم في بناء شخصياتهم”.
ويوضح أن الأسرة تعد البنية الأساسية لعملية التربية، التي من خلالها يتعلم الأفراد المعارف والمهارات والعادات والأعراف، بما في ذلك الجوانب الدينية والأخلاقية كالثقة بالنفس والصبر والصدق والإخلاص.
وبيَّن أن سلوك أفراد الأسرة وعلاقاتهم فيما بينهم يشكل عاملًا مهمًا في تشكيل شخصية الفرد وسلوكياته؛ فالاستقرار الأسري، أو عكسها من المشكلات والظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة كالفقر والمرض والجوع، كلها تنعكس على الصحة النفسية والشخصية للفرد.
ويضيف: “إن التناقض والاختلاف في التوجيهات والممارسات بين أفراد الأسرة، يولد لدى الطفل حالة من التشويش والبحث عن القدوة، مما قد يؤدي إلى اضطرابات في شخصيته؛ وبالتالي، فإن مرحلة النشأة الأسرية والتربية تعد الأساس لبناء شخصية الفرد، وتحتاج إلى تقييم دقيق لتصويب أي سلوكيات سلبية قد تنشأ عنها، وتعزيز الممارسات الإيجابية لتعزيز الصحة النفسية للفرد والمجتمع.
دور الأب أساسي في تكوين الشخصية
يقول عبد المجيد الزيلعي: “بصفتي أبًا، وكثير من الآباء غيري، نحرص على تحقيق التواصل الصحيح داخل العائلة من أجل أن يعيش أطفالنا في بيئة إيجابية وداعمة. ويعد دور العائلة أمرًا حيويًا في تحقيق استقرار الصحة النفسية للأطفال؛ لأنها تمثل بيئة حياتية تؤثر بشكل كبير على التنمية العاطفية والنفسية للأطفال”.
ويتابع الزيلعي حديثه: “نحرص على أن تقوم العائلة بتوفير الدعم العاطفي والاجتماعي الذي يعزز الشعور بالأمان والثقة لدى الطفل، ونعمل على أن تسهم العائلة في تعزيز الهوية الشخصية وتطوير مهارات التفاعل الاجتماعي، مما يسهم في بناء شخصية قوية ومستقرة نفسيًا ونافعة لنفسها ومجتمعها”.
ويكمل: “تلعب العلاقات العائلية الإيجابية دورًا كبيرًا في تقديم الدعم العاطفي والتحفيز والمتابعة المستمرة، ونحرص باستمرار على توفير بيئة داعمة ومستقرة لنمو الأطفال وتطورهم الشخصي واستقرارهم النفسي”.
آراء مختصين
حول تعزيز التواصل العائلي الإيجابي تقول المختصة النفسية أروى الوصابي: “تعزيز التواصل الإيجابي الصحيح هو أساس بناء علاقات متوازنة وصحية بين أفراد الأسرة، وما ينعكس بشكل مباشر على الصحة النفسية لجميع أفرادها. التفاهم والصدق والاحترام المتبادل من الأمور الأساسية للتواصل الأسري الفعال، وهو ما يساعد على فهم احتياجات كل فرد ومشاعره، وتبادل الأفكار بشكل مفتوح وبنَّاء”.
وتضيف: “إن مشاركة الأنشطة المشتركة وجلسات الحوار بين الآباء والأبناء مهمة في تعزيز هذا التواصل وتعميقه، فعندما يتفاعل أفراد الأسرة ببساطة، ويناقشون همومهم وتطلعاتهم، تتعزز بينهم الروابط ويتحقق الشعور بالسعادة والاستقرار النفسي. ومن ثمَّ فإن استثمار الأسرة في تعزيز التواصل الإيجابي بين أفرادها يعد أمرًا حيويًّا؛ لضمان صحتهم النفسية والاجتماعية على المدى الطويل، فالأسرة المترابطة تعد الأساس لبناء مجتمع أكثر توافقًا وتكافلاً”.
تعزيز إيجابي يتيح الدعم النفسي
يقدم التعزيز العاطفي الإيجابي دورًا محوريًا في بناء شخصية أفراد الأسرة، ويسهم بشكل كبير في تكوين جيل صالح وفعال في المجتمع؛ فمن خلال التعزيز الإيجابي، يصبح أفراد الأسرة أكثر ثقة بأنفسهم، ويشعرون بقيمتهم الذاتية، ويقدرون على اتخاذ القرارات الصائبة ويصبحون أكثر اعتمادًا على أنفسهم، وأكثر قدرةً على تحقيق أهدافهم، ويساعد التعزيز العاطفي أيضًا في ترسيخ مفهوم القيم والتقاليد والأعراف الاجتماعية داخل الأسرة.
تقول الوصابي: “التعزيز العاطفي والإيجابي داخل الأسرة وعلاقته بتحسين الصحة النفسية للفرد يعد شيئًا مهمًا ومؤثرًا، ويتيح الدعم النفسي والعاطفي بين أفراد الأسرة أيضًا تعزيز الفهم المتبادل وتقديم الدعم المعنوي والتواصل الجيد والإيجابي في حل الخلافات وإنهاء المشكلات التي قد تعيق سير الحياة الأسرية”.
التحديات
يعدُّ المختص النفسي عنصرًا أساسيًا في تقديم الدعم والمشورة للأفراد والأسر في مواجهة الأزمات والمشكلات. وعلى الرغم من أهمية دوره، فإنه قد يواجه بعض التحديات والعقبات في ممارسة عمله، وهو ما أكدته الوصابي في حديثها حول التحديات؛ إذ تقول: “من أهم التحديات التي تواجه المختص النفسي عدم وعي بعض الأسر بمفهوم الصحة النفسية؛ إذ ما يزال بعض أفراد المجتمع يجهلون مفهوم الصحة النفسية وأهمية عمله؛ فبعض أفراد المجتمع يرفضون اللجوء إلى المختص النفسي خوفًا من وصمة العار أو الخوف من نظرة المجتمع. كما قد يواجه المختص النفسي استهانة أو تقليلًا من شأنه من قبل البعض، أو عدم المتابعة المنتظمة للجلسات النفسية من قبل المستفيدين”.
ولتجاوز هذه التحديات، ترى الوصابي أن من الضروري نشر الوعي بأهمية المختص النفسي ودوره الفاعل في بناء العلاقات الأسرية والاجتماعية وتوطيدها من خلال وسائل الإعلام المختلفة، والعمل على تعزيز الفهم المجتمعي لأهمية الصحة النفسية وأدوار المختصين النفسيين، وهذا يساعد على تذليل العقبات، ويمكِّن المختصين من ممارسة مهامهم بشكل أكثر فعالية.
قصص واقعية
ينحدر علي المحمدي من قرية بسيطة من قرى اليمن، ترعرع في كنف عائلة محبة تحيطه بالرعاية والدعم، فقد نشأ بين أحضان والديه اللذين يعملان بجد في الأرض الزراعية، حاصدين الزرع وحب أطفالهم معًا. وإلى جانب حبه للتعليم، وجد علي تشجيعًا كبيرًا من أسرته، مما أسهم في تميزه الدراسي وتصرفاته الجميلة مع أصدقائه، فكان محبًا للغير، دائمًا ما يساعد أصدقاءه ويشاركهم لحظاتهم الجميلة. حكاية علي ليست مجرد قصة عادية، بل تعد نموذجًا يجسد دور الأسرة الصحيحة في بناء شخصية قوية وناجحة.
من جانب آخر، نشأ الطفل أسامة حميد في بيئة أسرية مفككة، وكان يتعرض بشكل متكرر لمشاجرات حادة بين والديه. هذه الأجواء المضطربة انعكست سلبًا على سلوكه في المدرسة، فبات شارد الذهن، عدوانيًا مع أصدقائه، ولا يشارك في الأنشطة المدرسية. وأصبح يعاني من فرط الحساسية، ويبكيه أي موقف لا يناسبه، وكل ما يحلم به الآن عائلة هادئة توفر له الدعم النفسي.
تعد الأسرة المنبع الأساسي لتربية الطفل وتعليمه القيم الأخلاقية، وهي مهمة وأساسية في تكوين شخصية الطفل وتحديد مساره في الحياة. ولعل المقارنة بين علي وأسامة تجسد بشكل جلي تأثير الأسرة على حياة الفرد ومستقبله. الأسرة هي من تصنع شخصية الفرد؛ ففي ظل أسرة مستقرة ينشأ الطفل محاطًا بالأمان والحنان، مما يكسبه الثقة بالنفس والقوة في مجابهة الحياة، وفي ظل أسرة متفككة يعيش الطفل حالة من التوتر والقلق وعدم الثقة بالنفس وبالآخرين، مما يؤثر سلبًا على نموه النفسي وسلوكه خلال مراحل حياته.
69.2% من المشاركين في الاستطلاع قالوا إنهم عانوا بالفعل من أعراض الاضطرابات النفسية
إعداد: يُمنى الزبيري الصحة النفسية -حسب تعريف منظمة الصحة العالمية لها- حالة من العافية يس…