‫الرئيسية‬ الأعداد السابقة الصحة النفسية في اليمن الصحة النفسية في اليمن.. تحليل للعوامل المؤثرة والتحديات المستقبلية

الصحة النفسية في اليمن.. تحليل للعوامل المؤثرة والتحديات المستقبلية

هبة محمدصوت الأمل

تعد الصحة النفسية من القضايا الأساسية التي تواجهها المجتمعات في الوقت الحاضر، وتتطلب اهتمامًا واسعًا ومستمرًا؛ لضمان رفاهية الأفراد واستقرارهم النفسي. وفي ظل التحولات والأزمات التي تمر بها اليمن، تتصاعد أهمية فهم الصحة النفسية وتحليل العوامل المؤثرة فيها، وذلك لتوفير خدمات صحية نفسية فعالة وملائمة للمجتمع.

يهدف هذا التقرير إلى تقديم رؤية شاملة عن الصحة النفسية في اليمن؛ إذ يقوم بتحليل الواقع الحالي ويستكشف العوامل المؤثرة في الصحة النفسية للأفراد والمجتمع ككل، مع عرض التحديات التي تواجه النظام الصحي النفسي في اليمن.

الصحة النفسية مفتاح السلام الداخلي  

يقول الاستشاري النفسي ورئيس وحدة التدريب والبحوث بمركز الإرشاد النفسي في جامعة إب، الدكتور علي راجح: “يعد مجال الصحة النفسية من أكثر مجالات علم النفس إثارة لاهتمام الناس، سواء المتخصصين منهم أو غيرهم من عامةِ الناس. ولعل من أهم الأسباب التي تدفعنا إلى الاهتمام بهذا المجال هو أن الوصول إلى مستوى مناسب من الصحة النفسية السليمة أمر مرغوب فيه من الناس جميعًا”.

 ويواصل: “اهتم الناس منذ القدم بشؤونهم الصحية، الجسمية منها والنفسية، وقد اتخذ الاهتمام بالصحة النفسية أو بالجانب النفسي صورًا مختلفة. كما أن هذا الموضوع يتصل بالصغير والكبير على السواء، ويعني الفرد والمجتمع معًا، ويشترك في بحثه عالم النفس والطبيب وعالم التربية والباحث في ميادين الخدمة الاجتماعية”.

 يشير الدكتور راجح إلى ازدياد اهتمام الناس بصحتهم النفسية اليوم عن الأمس، وتطوُّر ذلك مع ازدياد الأزمات والتطور التكنولوجي وإنشاء المصانع العملاقة وظهور الأسلحة الفتاكة وانتشار النزاعات وغيرها من العوامل التي جعلت العالم يعيش في قلقٍ شبه دائم.

وعن مفهوم الصحة النفسية علميًا، أوضح راجح أن منظمة الصحة العالمية تعرف الصحة النفسية بأنها “حالة العافية التي يحقق فيها الفرد قدراته الذاتية، ويستطيع مواكبة ضغوط الحياة العادية، ويكون قادرًا على العمل الإيجابي والمثمر، ويمكنه الإسهام في مجتمعه”.

 فيما تقول المختصة النفسية الدكتورة فضيلة الشعيبي: “دخل الإنسان القرن الحادي والعشرين حاملًا معه من القرن الماضي عبئًا ثقيلاً من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية والتربوية، وخاصة في العقد الأخير الذي شهد صراعات سياسية طالت معظم البلدان، ومنها اليمن”.

وتبين الشعيبي أيضًا أن مفهوم الصحة النفسية من المفاهيم الرمزية أو الافتراضية؛ كونه لا يشير إلى شيء كميِّ أو مجسَّد، وإنما يشير إلى سلوك الفرد بما فيه من عواطف وتفكير، ويتغير بتغير وجهات النظر المختلفة ويختلف باختلاف الزاوية التي ينظر منها المنظِّرون والمدارس النفسية المختلفة.

 وفي سياق الحديث، أوضح الدكتور راجح أن للصحة النفسية أهميةً بالغةً في حياة الفرد والمجتمع؛ فبالنسبة للفرد تساعده في حل مشكلاته التي تواجهه في الحياة ليعيش حياة اجتماعية سليمة، وفي التركيز والاتزان الانفعالي، وفي الأمن والطمأنينة والهدوء النفسي والنجاح في حياته المهنية، وتعمل على تدعيم صحته البدنية، وفي تحقيق إنتاجيته وكفايته.

أما الدكتورة مرسلة العواضي -معالجة نفسية في مؤسسة ذاتي للاستشارات النفسية، محافظة إب- فتشارك قائلة: “ترتبط الصحة النفسية ارتباطًا وثيقًا بتكيف الإنسان وتوافقه مع نفسه ومجتمعه، ولا تقتصر على غياب الاضطرابات النفسية؛ فهي جزء من سلسلة متصلة معقدة، تختلف من شخص لآخر، وتتسم بدرجات متفاوتة من الصعوبة والضيق، وبحصائل اجتماعية وسريرية يُحتمل أن تكون مختلفة للغاية”.

وتضيف: “وتشمل اعتلالات الصحة النفسية الاضطرابات النفسية وحالات الإعاقة النفسية الاجتماعية، فضلاً عن الحالات النفسية الأخرى المرتبطة بالضيق الشديد أو ضعف الأداء أو خطر إيذاء النفس. ومن المرجح أن يعاني الأشخاص المصابون باعتلالات الصحة النفسية من تدنّي مستويات الراحة النفسية، لكن هذا لا يحدث دائمًا أو بالضرورة”.

وعن مستويات الصحة النفسية في اليمن ومدى الاهتمام بها يشير د. راجح قائلاً: “عندما نتحدث عن الصحة النفسية في البلاد فإننا سنضع أنفسنا داخل بحر كبير لا نستطيع الوصول إلى ساحله؛ فالاهتمام بالصحة النفسية لم يبدأ إلا حديثًا وبإمكانيات بسيطة. وقد كان الاهتمام فيما قبل العام 2006 بسيطًا، وكان عدد المستشفيات الخاصة بالاضطرابات النفسية والعقلية أربعة فقط، محصورة في صنعاء وعدن والحديدة وتعز، بسعة 850 سريرًا”.

ويضيف: “كان هناك خمسة مستوصفات خاصة بسعة 100 سرير منحصرة بالمدن السابقة نفسها. أما العيادات فكانت 45 عيادة، وعدد العاملين في التمريض النفسي في اليمن 197 عاملاً، و45 طبيبًا نفسيًا، و3000 مختص نفسي موزعين على الجهات الأكاديمية والطبية ومكاتب الشؤون الاجتماعية”.

وذكرت العواضي أن الصحة النفسية في اليمن لا تعد من ضمن أولويات الصحة وإستراتيجيات تعزيزها، ولا تشكل جزءًا من خطط التنمية الاجتماعية. ولم تخلف سنوات الصراع الطويل في اليمن ظلالاً قاتمة على بنيتها التحتية فحسب، بل امتدت آثارها أيضًا إلى صحة سكانها ورفاههم.

وتؤكد أن الصحة النفسية لطالما تم تجاهلها حتى تفاقمت هذه الأزمة الخفية في عمق المجتمع؛ فالعديد من المناطق في اليمن تعاني نقصًا حادًا في خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، وذلك بسبب قلة عدد المختصين المُدَرَّبين والمراكز العلاجية.

مشيرة إلى أنه، حتى في المناطق التي تتوفر فيها مثل هذه الخدمات، قد يعاني البعض من صعوبة الوصول إليها بسبب الوصمة الاجتماعية، أو انخفاض الدخل. وذكرت أن عدد الأشخاص الذين يعانون من الصدمات النفسية والإجهاد الناجم عن الصراع المستمر -حسب تقرير منظمة الصحة العالمية في اليمن- نحو 7 ملايين شخص، أي ما يقرب من ربع سكان اليمن. وفيما يحتاج جميعهم إلى دعمٍ صحيّ نفسي، لا يتمكن سوى القليل فقط من الوصول المستمر للخدمات.

العوامل المؤثرة على الصحة النفسية

“هناك عدة عوامل تؤثر سلبًا على الصحة النفسية، منها الضغوط النفسية التي تعد أهم عامل مؤثر على صحة الفرد النفسية، وحتى البدنية، وكذلك النمط الغذائي، والصراعات والأزمات، والعلاقات الاجتماعية والمناخ الأسري المشحون بالخلافات، وتدني المستوى الاقتصادي، والكثير الكثير من العوامل الأخرى”، وفقًا للدكتور راجح.

فيما ذكرت العواضي مجموعة من العوامل الوراثية والبيئية التي تهيئ الإصابة بالاضطرابات النفسية بقولها: “تلعب الوراثة دورًا مهمًا في حمل الاستعداد للمرض النفسي مع الأخذ بعين الاعتبار أن العوامل الوراثية لا تعني حتمية الإصابة بالاضطرابات النفسية، كما أن إصابة الوالدين أو أحدهما بمرض نفسي لا يؤدي بالضرورة إلى إصابة الأبناء، أو أحد الأحفاد، وإنما هو عامل من بين عدة عوامل متشابكة ومشتركة”.

وأشارت أيضًا إلى أن العوامل البيولوجية، مثل الإصابات الدماغية والتهابات السحايا والدماغ وسوء التغذية، لها أثر كبير في حدوث اضطرابات الصحة النفسية، وهناك أسباب عائلية تتمثل في غياب الأم -خاصة في المراحل المبكرة من العمر- وكذلك الخلافات العائلية العلنية المستمرة بين الوالدين -بالإضافة إلى الطلاق وتشرد الأطفال- جميعها تترك ندوبًا غائرة وتؤثر في صحة الفرد النفسية.

وذكرت أيضًا أن أساليب التربية الخاطئة القائمة على العنف والنقد والمقارنة والضرب والصراخ والسخرية، أو الدلال المفرط والحماية الزائدة والتذبذب في عملية التربية، تخلق أنماطًا مهزوزة من الشخصية وتسبب خللًا في الصحة النفسية. كما أن اضطهاد الأطفال جسديًا ومعنويًا أو جنسيًا من العوامل ذات الصلة بظهور الاضطرابات النفسية. ومن العوامل المؤثرة على الصحة النفسية أيضًا النزاعات والصراعات السياسية والاجتماعية والكوارث الطبيعية والظروف الاقتصادية الصعبة.

من المصحات التقليدية إلى التوسع في الخدمات

تقول الشعيبي: “في العام 1966، شهدت اليمن افتتاح أول مصحة نفسية في مدينة عدن، تم تأسيسها من قبل السلطات البريطانية واستمرت حتى الاستقلال في عام 1967. ووفقًا لدراسة بعنوان (الصحة النفسية في الجمهورية اليمنية بين الماضي والحاضر وآفاق المستقبل) للباحثة بلقيس جباري، فقد كانت المصحة تعتمد على طبيب أجنبي واحد ومتخصص صيدلة واحد فقط، بالإضافة إلى سبعة عشر ممرضًا وممرضة، وكانت المصحة تتألف من غرف تشبه الزنازين، إذ كانت تستقبل المرضى من سجن المنصورة”.

وأردفت الشعيبي أنه في شمال اليمن، في عام 1976، تم بناء مصحة السلام في مدينة الحديدة، ومع ذلك لم تقدم أي خدمة نفسية واكتفت بدور إيواء المرضى العقليين. وفي عام 1978، تم استدعاء طبيب نفسي بُلغاري إلى عيادة متخصصة في المستشفى الجمهوري في صنعاء، وبعد وقت قصير، تم الاستعانة في عيادة الأعصاب بالمستشفى العسكري بطبيب أوروبي آخر لعلاج الحالات الشديدة من الأمراض النفسية.

وفي عام 1980، أطلقت منظمة الصحة العالمية مبادرة مهمة في اليمن لتطوير الرعاية الصحية النفسية، من خلال إصدار دراسة تقييمية لحالة الصحة النفسية في اليمن. وبعد تنفيذ هذه الدراسة قامت المنظمة بتأسيس أقسام للطب النفسي في ثلاثة مستشفيات، في صنعاء وتعز والحديدة، حسب دراسة جباري.

تشير الدراسة أيضًا إلى أن الدكتور أحمد مكي كان أول طبيب يمني متخصص في الأمراض النفسية، وقد أشرف على قسم الطب النفسي في مستشفى الثورة في صنعاء في عام 1981. وفي الفترة ذاتها، بدأ الدكتور عبد الكثيري العمل في عدن، وهذا أول إسهام يمني في مجال الصحة النفسية في جنوب اليمن.

وفي عام 1986، أظهرت دراسة جباري أن عدد الأطباء النفسيين في شمال اليمن كان ثلاثة فقط، في حين كان عدد سكان الشمال يبلغ تسعة ملايين نسمة، وأنه تم إدماج خدمات الصحة النفسية رسميًا في الرعاية الصحية الأولية في جنوب اليمن في أوائل الثمانينيات من خلال برنامج “صحة النفس” الذي أطلقته منظمة الصحة العالمية. حاول هذا البرنامج توسيع الخدمات النفسية في المحافظات الجنوبية من خلال ورش عمل تدريبية للأطباء في لحج وحضرموت وشبوة وأبين بإشراف وزارة الصحة.

 في وقت لاحق، تم افتتاح مستشفى جامعة عدن لعلاج الاضطرابات العصبية والنفسية في عام 1984. وبين عامي 1986 و1990 أُغلقت مصحة عدن القديمة ونُقل المرضى إلى عيادة المستشفى الجديدة.

من جهتها أشارت الشعيبي إلى أنه بعد قيام دولة الوحدة تم تطوير الهيئات الإدارية والإشرافية في الهيكل التنظيمي لوزارة الصحة، وأُنشِئ المجلس الأعلى للصحة النفسية وتم وضع الإستراتيجية الوطنية للصحة النفسية، التي ساعدت في إعدادها منظمة الصحة العالمية عام 2004. وهدفت الإستراتيجية إلى رفع التوعية بالصحة النفسية وتعزيز فرص الحصول على خدمات في ذلك المجال.

رحلة معقدة وتحديات مستمرة

 رغم انتشار الاضطرابات النفسية والعقلية بصورة كبيرة جدًا في أوساط الشعب اليمني، ومقابل انتشار خدمات الصحة النفسية -وإن كان محدودا- من قبل المنظمات والجهات الأخرى، فإن الوعي لدى المواطن ما يزال في أدنى مستوى وما زالت وصمة العار ونظرة المجتمع تلاحقان المتعب نفسيًّا، مما يجعله يعزف عن طلب الخدمة النفسية.

يرى د. راجح أن تلك النظرة الدونية تزيد الوضع سوءًا وتضاعف الأزمة أكثر، ويعد من ضمن العراقيل التي تمنع وصول الخدمة إلى المواطن، وذكر أيضًا أن أهم التحديات التي تواجه القطاع الصحة النفسية في اليمن شحة الخدمات النفسية بجميع مستوياتها، وإذا وجدت فلا تغطي إلا محافظات محددة أو مناطق معينة من هذه المحافظات نفسها.

من جهتها تشارك المعالجة النفسية العواضي بالقول: “تعد قضية الصحة النفسية في اليمن مسألة تستحق الانتباه. ورغم المساعي المبذولة لوضع قانون الصحة النفسية في عام 2004، فإن الموافقة عليه من قبل البرلمان اليمني لم تحدث بعد. ولتفادي الجمود، تم إجراء تعديلات وتحسينات على القانون، مما أدى في نهاية المطاف إلى إعداد مشروع قانون الصحة النفسية لعام 2007 بهدف تنظيم خدمات الصحة النفسية في البلاد، ولكن للأسف لم تتم المصادقة على هذا المشروع أيضًا”.

وتشير في سياق حديثها إلى أن الأطباء اليمنيين يواجهون العديد من التحديات في سبيل تأمين تمويل لعياداتهم. ورغم ذلك، تبقى الجهود المناصرة الوطنية المنظمة لقضايا الصحة النفسية ضعيفة، وتتفاقم المشكلة بوجود وصمة اجتماعية تحيط بمفهوم الأمراض النفسية؛ إذ يشعر العديد من اليمنيين بالتردد في طرح مخاوفهم أو البحث عن خدمات متخصصة للتعامل مع ظروفهم الصحية.

  وتُشير التقارير أيضًا إلى أن الأشخاص اليمنيين الذين يعانون من الأمراض النفسية يتم احتجازهم في منازلهم العائلية. ومن الأخبار الأخرى التي تظهر أن بعض فئات المجتمع اليمني، بما في ذلك النساء، يواجهون تحديات خاصة تحول دون الحصول على الرعاية اللازمة.

توضح العواضي أن لتخصص الصحة النفسية في التعليم الجامعي تحدياته الخاصة، إذ يعتقد بعض المتخصصين الطبيين أن الوصمة العامة تلقي بظلالها على الاهتمام المستمر بالمجال، وجذب الطلاب بشكل كافٍ.

الرجاء تسجيل الدخول للتعليق.

‫شاهد أيضًا‬

69.2% من المشاركين في الاستطلاع قالوا إنهم عانوا بالفعل من أعراض الاضطرابات النفسية

إعداد: يُمنى الزبيري الصحة النفسية -حسب تعريف منظمة الصحة العالمية لها- حالة من العافية يس…