فنون الشعر في اليمن اسهامات في تغير الروية نحو المجتمع
علياء محمد – صوت الأمل
أثبتت الدراسات المختلفة في الأدب أنّ الشعر يحتل مكانة مرموقة في الحضارات الإنسانية؛ كونه لسان حال الشعوب، ومرآة تعكس واقعها الاجتماعي والثقافي، وأكدت على أهمية الشعر ودوره في تقديم رسائل نحو المجتمع تدعو إلى التغيير والتطور والارتقاء، وتوعية أفراده في مختلف المجالات والقضايا، كما يمكن للشعر أن يُسهم في إحداث تغيير إيجابي في البناء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، من خلال نشر أفكار جديدة وتغيير نظرة المجتمع نحو نفسه ونحو العالم.
يُؤكّد المنهج الاجتماعي أنّ الأدب ليس مجرد نصوص جميلة، بل هو رؤية للواقع، يتفاعل مع الظروف والمواقف، ويؤثر السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي بشكل كبير على الأدب؛ إذ يشكل أفكار الكاتب وتجاربه، وبالتالي ينعكس ذلك على أعماله.
وفي اليمن، يعدُّ الشعر من الفنون التقليدية والثقافية ذات الأهمية الكبيرة؛ إذ لعب دورًا مُهمًّا في بناء الهوية اليمنية، والتعبير عن مختلف القضايا المجتمعية والسياسية والدينية.
هذا وقد كان للشعراء اليمنيين تفاعل كبير وحيوي في توعية الناس، ونشر الوعي الاجتماعي والنقد السياسي، ومن هنا، ارتبط الشعر اليمني بالقضايا المجتمعية بشكل وثيق ومؤثر.
وبحسب كتاب “روائع من فنون الشعر الشعبي اليمني” ـــ نماذج مختارة من صفحات منتدى المجلس اليمني، فقد أشار إلى عدة فنون شعرية، شملت (القصيدة، المساجلة، الزامل، الرزفة، البالة، الحال، الألغاز، المجاراة)، وهي تعدُّ متنوعة بتنوع نشاط الإنسان اليمني، والأكثر تأثيرًا في وجدانه؛ لأنّها تعبر عنه، وترسم تفاصيل حياته بدقة متناهية، كما تعدُّ جزءًا من الموروث اليمني المشرق بصورته الناصعة والمثمرة، التي تحتل مكانة مرموقة ومتميزة بعراقتها في سجلات التاريخ.
من رواد الشعر اليمني
في قرية “البردون” في محافظة ذمار، ولد شاعر استثنائي لم يمنعه فقدان بصره من أن يبصر بقلبه شعرًا يلامس قلوب المجتمع اليمني، ويخلد في ذاكرة التاريخ، إنه “عبد الله صالح حسن الشحف البردوني”، شاعر اليمن الضرير الذي أبصر بقلبه كلمات تضيء دروب الأدب العربي.
ولد البردوني عام 1929م، وسرعان ما أصيب بالجدري في طفولته الباكرة، تاركًا له ظلامًا أبديًّا، لكن هذا الظلام لم يطفئ نور إبداعه، بل جعله ينهل من ينابيع المعرفة، ويصقل موهبته الشعرية؛ إذ درس البردوني في مدارس ذمار لمدة عشر سنوات، ثم انتقل إلى صنعاء، وأكمل دراسته في دار العلوم، وتخرج فيها عام 1953م.
واكتسب من العلم والثقافة ما أهّله لأنْ يصبح أستاذًا للآداب العربية في المدرسة ذاتها، ثم عمل مسؤولًا عن البرامج في الإذاعة اليمنية.
لم يقتصر إبداع البردوني على الشعر فقط، بل برز أيضًا كناقد أدبي ومؤرخ؛ إذ تميز أسلوبه الشعري بحداثته وسخريته ورثائه، معبرًا عن أفكاره ومشاعره بصدق ووضوح، ولم يقتصر شعره على الأنماط التقليدية، بل تجاوزها ليكتب بأسلوب حديث متزن، مُمزجًا بين الأصالة والمعاصرة.
كما استخدم البردوني السخرية بذكاء ومهارة؛ ليكشف عن تناقضات الواقع، ويسخر من الظلم والقهر، ولم تكن سخرية جارحة، بل كانت موجهة لإصلاح المجتمع وتحسينه.
وبحسب الموقع الرسمي للشاعر البردوني، فقد أصدر الشاعر الكبير 12 ديوانًا شعريًّا، نال فيها عدة جوائز محلية ودولية، منها جائزة شوقي للشعر في القاهر، وجائزة سلطان العويس في الإمارات، وجائزة أبي تمام في الموصل، وجائزة اليونسكو التي أصدرت عملة فضية عليها صورته في العام 1982م.
ومن أشهر تلك الدواوين؛ “من أرض بلقيس” و “في طريق الفجر” و”مدينة الغد” و”لعيني أم بلقيس” و”السفر إلى الأيام الخضر” و”وجوه دخانية في مرايا الليل” و”زمان بلا نوعية” و”ترجمة رملية” و”لأعراس الغبار” و”كائنات الشوق الآخر” و” رجعة الحكيم بن زائد” وغيرها.
كما له العديد من الدراسات النقدية، ومن أهم قصائده التي اشتهر على إثرها عربيًا قصيدة “أبو تمام وعروبة اليوم” التي ألقاها في مهرجان المربد، قال فيها:
ما أصدق السيف! إن لم ينضه الكذب وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ
بيض الصفائح أهـدى حين تحملها أيدٍ إذا غـلبت يعلو بها الغلبُ
وأقبح النصر.. نصر الأقوياء بلا فهم.. سوى فهم كم باعوا.. وكم كسبوا
أدهى من الجهل علم يطمئن إلى أنصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا
ووفقًا للدراسة البحثية الصادرة عن قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، في إندونيسيا، بعنوان (تلقي الأبعاد الاجتماعية والسياسية في شعر البردوني)، فقد حوى شعر البردوني بُعدًا من الوطنية، وقيمًا تمثل الشعب والأمة والضمير الإنساني، إضافة إلى ذلك، فقد شملت أشعار البردوني وقصائده قضايا اجتماعية متنوعة، مثل كبرياء النسب، والتمييز الطبقي، والطائفية، وقضايا المرأة المتعلقة بالأسرة، والثورة، والزواج والطلاق، والترمل، والانحراف الأخلاقي.
كما حللت الدراسة شعر البردوني من الناحية الاجتماعية، وفق المنظور السياسي الوطني المتمثل في القضايا القومية والثورية والتحررية، وقضايا العرب الكبرى والمصيرية. مؤكدًا أنّ البردوني كان شاعرًا اجتماعيًّا وثوريًّا، يرفض الظلم ويزدري القهر، ويستهجن الدكتاتورية والرجعية.
تغير الواقع
يقول الشاعر حامد الفقيه: “تميز الشعر اليمني بأسلوبه السهل والغني باللغة العربية الفصحى؛ إذ عكس الشعراء اليمنيون الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد في العديد من الصور الأدبية، واستطاعوا إيصال رسائلهم وأفكارهم إلى مختلف أفراد المجتمع بأسلوب جذّاب”.
ويرى الفقيه أنّ الشعر الشعبي من أنواع الشعر المسيطرة في اليمن والمؤثرة، وهناك كثير من الأبيات والقصائد التي عالجت العديد من القضايا في المجتمع اليمني، مثل الثأر، والتقارب بين الأقوام، والمشاركة في الأفراح، ورثاء الأموات، إضافة إلى الأشعار الغزلية والسياسية.
مضيفًا: “القضايا التي تناولها الشعر اليمني أكدت على الدور الذي يقوم به الشعراء في تغيير الواقع؛ إذ أسهم الشعراء اليمنيون في نشر الوعي والتعبير عن القضايا المجتمعية، وتعزيز القيم الوطنية والتكافل والتضامن في المجتمع اليمني”.
أصوات مؤثرة
خلال مُدد زمنية متعاقبة، برز في اليمن العديد من الشعراء الذين أثرَوا الساحة الأدبية بأعمالهم الخالدة، ولعلَّ من أبرز الكتّاب والشعراء في اليمن “عبد الله عبد الوهاب نعمان” الذي يعدُّ شاعرًا وسياسيًّا يمنيًّا، وهو مؤلف النشيد الوطني اليمني، ومن شعراء عقد التسعينيات، “محمد عبد الوهاب الشيباني”، و”محمد اللوزي”، و”محمد محمد إبراهيم”.
بالإضافة إلى الشاعر اليمني “يحيى الحمادي” الذي كان عضوًا لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ومن أهم أعماله (عام الخيام)، و(رغوة الجمر)، و(حادي الربيع)، و(الخروج الثاني من الجنة)، و(اليمن السعير)، و(نحت في الدخان)، كما نال الشاعر الحمادي عدة جوائز إبداعية شملت جائزة المقالح للإبداع الأدبي 2012م، وجائزة رئيس الجمهورية للشعر 2013م.
كما برز في الشاعر اليمني “عبد العزيز الزراعي” في عام 2011م عند فوزه أميرًا للشعر بالمركز الأول في الدورة الرابعة من مسابقة «أمير الشعراء»، التي قيمت في دولة الإمارات. وغيرهم من الشعراء المؤثرين في اليمن.
تصف الشاعرة آزال الصباري الشعر بمرآة المجتمع، والمعبر الأدبي الأبرز للقضايا المجتمعية المؤثرة في الحياة العامة، إذ تقول: “على الرغم من تراجع الشعر أمام الأشكال الأدبية الأخرى كالرواية، والقصة، والمقالة الأدبية، فإنّه ما زال يؤدي دورًا بارزًا في التعبير عن قضايا المجتمع بشكل عام”.
وأكدت أنّ الشعر بأنواعه الفصيح والشعبي أو الغنائي، يحظى بتقدير كبير في أوساط المجتمع؛ إذ يعبر عن كثير من القضايا الاجتماعية المؤثرة، وله شعبية كبيرة؛ إذ يسهم في إيصال صوت كثير من الأفراد، سواء كان القبلي أو المدني، للجميع.
وأضافت: “أنّ الشعر يعبّر عن القضايا القومية والعربية، كما يعبّر عن مختلف القضايا السياسية والاقتصادية التي تؤثر على المجتمع بدرجة رئيسية؛ الأمر الذي أسهم في تصنيف بعض الشعراء اليمنيين بحسب انتمائهم السياسي، ولن ننسى أنه جانب مهم للتعبير عن الجمال والعواطف، وأبرز ما يظهر هذا الجانب هو الشعر الغنائي”.
وترى أنّ الشعر في اليمن يعدُّ من الأصوات المؤثرة في كثير من القضايا الداخلية، أو ذات الشأن الخارجي، أما داخليًّا فيشيد بالمواقف الإنسانية، ويحض المتخاصمين على العفو والتسامح، ويدعو للتعاون، ويقوّم كثيرًا من السلوكيات المجتمعية، ويرفع صوت اليمن عاليًا في القضايا الإقليمية والعربية؛ إذ يصدح ليعبر عن الغضب العارم، ويندد بما يمارس من ظلم.
وتتابع القول: “يؤثر الشعر في المجتمع ويتأثر به، فالشعر يدعم القيم والمبادئ الإنسانية، وذلك التأثير ينطلق من ثقافة الشاعر التي رُبّما قد تكون عكسية إذا ما كانت التغذية المحيطة به نشأت على الطيش، وهذا ما نسميه تأثير المجتمع على الشعر، وذلك قد يكون أمرًا نادرًا، وحتى وإن وُجد شعراء من هذا النوع، فإنّه يواجه نقدًا مجتمعيًّا لاذعًا”.
وفي سياق متصل أكّد كثير من النقاد والمهتمين بالأدب والشعر في اليمن أنّ الشاعر اليمني لعب دورًا مُهمًّا في المجتمع، عبر نقل أفكار الشعب ومشاعره، والتعبير عنها بجرأة في مختلف المحافل المحلية والخارجية، وقد أثبتت الظروف الصعبة التي مرّت بها اليمن خلال مدّة الصراعات، أنّ الشعراء اليمنيين استمروا في المحافظة على دورهم الحيوي في المجتمع.
في خضم الصراعات والنزاعات التي عصفت باليمن خلال مُدد زمنية، لم يصمت الشعر، بل تحوّل إلى صرخة مدوية ضد الظلم؛ إذ تناول العديد من القضايا الحساسة في المجتمع اليمني أبرزها: قضايا الفقر، والظلم الاجتماعي، والقهر، وتغنوا في قصائدهم وأشعارهم بالعدل والمساواة، وانتقدوا التفرقة الاجتماعية بين الطبقات المختلفة في المجتمع.
لم يقتصر دور شعراء اليمن في هذا الجانب فحسب، بل تناول الشعر اليمني قضايا المرأة وحقوقها ودورها في المجتمع، وسلّط الضوء على قوة المرأة وتأثيرها الإيجابي في المجتمع اليمني.
90.2% من المشاركين في الاستطلاع يرون أن للشعر دورًا حيويًّا في الحفاظ على الهوية الثقافية اليمنية ونقلها عبر الأجيال
إعداد: يمنى الزبيري يعود تاريخ الشعر اليمني إلى عصور ما قبل الإسلام؛ إذ كانت القبائل اليمن…