الشعر القبلي اليمني، أداة لفض النزاعات ونشر السلام بين القبائل
علياء محمد –صوت الأمل
منذ فجر التاريخ، كان للشعر مكانة مرموقة في حياة الإنسان، فكان بمثابة مرآة تعكس أفكاره ومشاعره، وسجلاً لحضاراته وثقافاته، وقد برز الشعر القبلي اليمني كأحد أهم الأنواع الشعرية، حاملاً رسائل أدبية عميقة، ومجسدًا قيم المجتمع وتقاليده؛ إذ مثلت جزءًا من حياة القبائل في اليمن.
ويستخدم كوسيلة للتواصل والتعبير عن الأحداث والعادات والتقاليد القبلية، ولم يقتصر الشعر القبلي اليمني على القبيلة وحسب، بل تجاوز حدود البادية، وانتشر في المدن والقرى، وأصبح جزءًا من حياة الناس في جميع أنحاء اليمن، وأسهم في توسيع نطاق تأثيره، وتعميقِه في قلوب الناس من مختلف الثقافات.
في اليمن احتل الشعر القبلي مكانة كبيرة وثروة أدبية عريقة عكست تاريخ اليمن وثقافته الغنية، ونقلت معارفه وعاداته وتقاليده، فقد مثل الشعر القبلي هوية الأفراد الذين يعيشون في المناطق الريفية التي تمتد على طول جبال اليمن.
يرى الشاعر عبد الله النمر -أحد الشعراء القبليين في اليمن- أنّ الشعر القبلي من العناصر المهمة في الثقافة اليمنية؛ كونه أداة تعبير عن الانتماء الوطني، وواحد من أهم العوامل التي تسهم في تعزيز روح العلاقة والتعاون بين الناس، إضافة إلى ذلك فقد سلط الشعر القبلي الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية التي شغلت أفراد المجتمع اليمني.
وأضاف: “تميّز الشعر القبلي في اليمن ببساطته وعفويته، واعتمد على اللغة العربية البسيطة والقريبة من الناس، وكان الشعراء القبليون ينتقلون بين ديار القبائل، حاملين معهم عبق الكلمات وقوة الإبداع، والتغني بقصائدهم وبمجد قبائلهم، والاستماع إلى قصائد الآخرين، والمنافسة فيما بينهم، الأمر الذي يجعل من الشعر القبلي اليمني مميزًا عن غيره من الشعر”.
وأشار النمر في حديثه إلى مضامين الشعر القبلي في اليمن، بقوله: “إنّ الشعر القبلي يحمل بين ثناياه مواضيع متعددة كالبطولة والشجاعة والحب والتفاخر بالقبيلة؛ إذ يصب كثير من الشعراء جهودهم في إحياء التراث والتاريخ القبلي، ويسهمون في نقله من جيل إلى جيل آخر؛ للحفاظ عليه وتخليد ذكراه”.
مضيفًا: “تطور الشعر القبلي مع الوقت، وتنوعت مواضيعه وأساليبه، واحتل مكانة كبيرة في المجتمع اليمني؛ إذ أصبح يستخدم في المناسبات والأعياد والحفلات الشعبية”.
مميزات الشعر القبلي اليمني
يعدُّ الشعر القبلي اليمني من أعرق الفنون الأدبية في شبة الجزيرة العربية؛ إذ يتميز هذا الشعر بخصائص فنية وأدبية فريدة، جعلته ظاهرة ثقافية متميزة على مرِّ العصور، وتتنوع تلك الخصائص الفنية ما بين اللغة الشعرية والألفاظ والمفردات والقافية والوزن.
وقد ارتكز الشعر القبلي اليمني على اللغة العربية الفصحى، التي تتناسب مع لهجات القبائل المختلفة، هذا وقد تميز الشعر القبلي في اليمن بالألفاظ والمفردات الغنية بالأمثال، واستخدمها للتعبير عن الأحداث والمواقف، إضافة إلى ذلك، فقد استخدم الشاعر القبلي أسلوب النبرة العالية، وألفاظًا قوية، تعتمد على القافية والوزن ليضفي جمالًا لقصائدهم.
كما حظي الشعر القبلي في اليمن بشعبية واسعة في العروض الشعرية والمسابقات؛ إذ يتنافس فيها الشعراء من جميع أنحاء اليمن لإبراز مواهبهم في الشعر القبلي، ولم يكتفِ بذلك وحسب، بل استخدم الشعر القبلي لإحياء المناسبات الاجتماعية والدينية والتعبير عن القضايا الوطنية والنضالية، التي تعمل على تعزيز الوحدة والتضامن والفخر بالوطن والهوية القبلية.
فض النزاعات
عُدَّ الشعر القبلي اليمني وسيلة لتثبيت التراث والتاريخ اليمني، وحكت قصائدُ كثيرٍ من الشعراء أحداثًا تاريخية، وقصصًا من الماضي تعرّف فيها الجيل الحالي على تاريخ اليمن وهويته الثقافية.
كما شهدت اليمن العديد من النزاعات القبلية الدامية التي أودت بحياة كثير من المواطنين، ولكن من خلال الشعر استطاع عدد من الشعراء اليمنيين القبليين تدارك الأمور، والتوسط في حل الخلافات، وتهيئة الأجواء الإيجابية للتصالح عن طريق تسويات سلمية.
“لعب الشعراء القبليون في مختلف المحافظات اليمنية دورًا مهمًّا في التوصل إلى تسويات ومصالحات بين العشائر والقبائل المتنازعة، وذلك من خلال قصائدهم التي تعكس روح التسامح والحوار والوساطة”. هذا ما أكد عليه الشاعر القبلي حسين الشطبي في حديثه لصحيفة “صوت الأمل”.
وأشار إلى أنّ الشعر القبلي اليمني يعدُّ من أهم الوسائل التي استخدمها اليمنيون عبر التاريخ لحل النزاعات بين القبائل؛ إذ تكمن قوته في إيجاد حلول للخلافات القبلية، فمن خلال قصائد محكمة وكلمات مؤثرة، نجح الشعراء القبليون في التغلب على جراح الماضي، وإعادة اللحمة بين القبائل المتخاصمة.
وذكر أنّ الشعر الشعبي القبلي في اليمن ارتبط ارتباطًا وثيقًا في فض النزاعات وحل المشاكل القبلية، فهو ليس مجرد فنّ أدبي ترفيهي فحسب، بل يعدُّ أداة فعّالة للتواصل والتسوية السلمية بين القبائل اليمنية المختلفة. مؤكدًا بأنّ الشعر القبلي أسهم في فض النزاعات بنسبة %90 بين أفراد القبائل في اليمن، وذلك نتيجة نقله لرسائل تُسهم في حل المشاكل وفض النزاعات بشكل سلمي.
وأوضح أنّ الشعر في القبيلة يساعد في تجنيب العديد من القبائل ويلات الصراعات، وبحكمته يستطيع أن يهدّئ الأوضاع، ويخلق جوًّا من الانسجام والتعايش السلمي بين الأفراد، من خلال استخدام أسلوب شعري يُسهم في تقريب وجهات النظر، ويحقق التواصل والوفاق بين الأطراف المتنازعة.
الزامل أنموذجًا شعريًّا قبليًّا
وصف الكاتب اليمني محمد إبراهيم، في مقالته الأدبية “الزامل؛ أشهـر أجناس الأدب الشعبي في اليمن” بأنّه يعدُّ منبرًا وجهازًا إعلاميًّا للقبيلة في السلم والصراع والمناسبات، ومفتاحًا لقيم التسامح والتعايش والكرم.
كما يعرف الزامل في اليمن بكونه نوعًا من الرجز الشعري يلجأ إليه أبناء القبائل في أوقات الخصام والصراعات، فيقف القائد الذي يجيد نظم الزوامل بقول بضعة أبيات بلهجته العامية، فيتلقفها القوم ويغنمونها بأصواتهم، ثم ينشدونها جميعًا؛ لإثارة الحماس، وتحفيز الهمم.
كما يعدُّ الزامل من الفنون الأدبية التي تميز ثقافة المجتمع اليمني، ويشكل سلاحًا ذا حدَّينِ، فله جوانب إيجابية وأخرى سلبية؛ فمن إيجابيات الزامل أنّه قد يكون مفتاحًا للتسامح في أكثر المشاكل الاجتماعية تعقيدًا؛ إذ يعزز رسالة الإنصاف والامتثال للحق، أمّا من الجانب السلبي فقد يكون مشعلًا لفتيل حروب الثأر التي تبدأ بالكلمة.
وأوضح في مقالته أنّ الزامل يعدُّ نمطًا شعريًّا مقتضبًا، يركز على القضية الخطابية برمتها، وأنّه بمثابة دعوى قضائية – في عرف القبيلة – يجب الرّد عليها بإنصاف، للوصول لحل المشكلة والاعتراف بالحق، ففي طياته تقام الدعوى، وبه تكون الإجابة.
كلمة الشعر هي الأقوى
في سياق متصل، أفاد الشاعر أحمد النظامي أنّ الشعر الشعبي القبلي في اليمن قد أسهم على امتداد مراحله في حل قضايا المجتمع ونزاعاته القبيلة، فقد كان الشعر بمثابة سلاح للسلام، يستخدم للمِّ شمل القلوب وفض النزاعات، تمامًا كما كان يستخدم الرصاص والبندقية للدفاع عن الوطن.
وأضاف: “أنّ ما عجزت عنه الأيدي فعلته قصيدة شعرية، واستطاعت أن تقارب وجهات النظر بين قبيلة وقبيلة، حتى ظاهرة الثأر كان للشعر دور فعّال تارة في إذكاء فتيل الوعي ومعالجة السلبيات، وتارة في إرساء قيم الصلح والتسامح، ولأنّه (رُبَّ كلمة غيّرت مجرى حياة أمة)، فقد كانت كلمة الشعر هي الأقوى”.
وأشار إلى أنّ المجتمع اليمني في الأصل شاعر، يمتلك شعورًا وعاطفة وإحساسًا، يطرب لكل ما هو جميل، ويتجاوب لكل ما يدعو إلى الصلح، وإن نشبَ خلاف في إحدى الأسر جراء مشكلة زواج مثلًا، يكون للشعر في القبلية حضور وبصمة في إنهاء المشكلة، ومن أبرز تلك الأبيات التي تُلقى:
تمّت على خير والحكمة لعقالها
خيارها كسوة المكلف وتسلى لها
والمعولة عادها تضوي لجهالها
وقال الشاعر أحمد النظامي: “إنّ من الشواهد التي كتبتها بصورة خاصة في معالجة قضية قبلية هي حين طلب مني أحد الأصدقاء الإدلاء بشهادة في متخاصمين، على الرغم من أنّ شهادته كانت كفيلة بإنهاء القضية بين الطرفين.. فبعثت إليهم قصيدة مضمونها:
علمني الحق لا أرقص مع الباطل ولا أصحح غلط غلطان مهما صار
ولن أُضيّع دم المقتول للقاتل ولن أقارن شذا الجنة بشوك النار
الحق يرفع مقامك في البشر كامل والمال يُفنى ويبقى الواحد القهار
«السن بالسن» قال الحاكم العادل تدبروا يا أولي الألباب والأبصار”
وأكّد أنّه كان للقصيدة تأثير على أحد الخصوم، وسرعان ما تحمّس وبادر بالشهادة بكلمة الحق، وكان الصلح.
في الختام، يظل الشعر القبلي في اليمن موروثًا تاريخيًّا وحضاريًّا يجب الحفاظ عليه ودعمه، وذلك من خلال تشجيع الشعراء، وتوفير الدعم المناسب لهم للحفاظ على تراثهم الثقافي والنهوض به، والاهتمام به، وتعزيز دوره في خدمة المجتمع اليمني، وبناء مستقبل أفضل للجميع.
90.2% من المشاركين في الاستطلاع يرون أن للشعر دورًا حيويًّا في الحفاظ على الهوية الثقافية اليمنية ونقلها عبر الأجيال
إعداد: يمنى الزبيري يعود تاريخ الشعر اليمني إلى عصور ما قبل الإسلام؛ إذ كانت القبائل اليمن…