السلاح في الريف اليمني.. رحلة بين التقاليد المتوارثة والعنف
صوت الأمل – ياسمين عبد الحفيظ
تعدُّ ظاهرة انتشار السلاح في الريف اليمني من الظواهر المُقلقة التي تلقي بظلالها على مختلف جوانب الحياة، ففي بعض المناطق الريفية، لا يكاد يخلو منزل من وجود قطعة سلاح على الأقل، وكأنّه جزء لا يتجزأ من ثقافة أبناء الريف وتقاليدهم؛ إذ إنّ الأسلحة الموجودة في أغلب منازل الأرياف اليمنية يصلُ عمرها إلى أكثر من 30 عامًا، وكانت تستخدم لغرض حماية أنفسهم من أي اعتداءات، أو من أجل الاحتفاظ بها لينتفع بقيمتها في المستقبل.
هذا ما أكدته سماح علي (اسم مستعار) التي تعيش في إحدى المناطق الريفية بمحافظة تعز؛ إذ تقول: “حرص أبي على شراء قطعة سلاح، وهي عبارة عن بندقية قديمة الصنع منذ أكثر من 34 سنة، وذلك بغرض الانتفاع بقيمتهما وقت الحاجة للمال”.
وأكدت على أنّ الحال هو ذاته في أغلب منازل القرية؛ إذ ورث الأبناء قطعًا متنوعة من الأسلحة من الآباء أو الأجداد، بعضهم يحتفظ به كإرث تاريخي وتقليدي في أماكن محددة أو خزائن سرية، أو يتم تعليقها في جدران الغرف كزينة تراثية، وبعضهم الآخر يقوم ببيعها والاستفادة من قيمتها، كما أنّ هناك من يقوم بارتدائه في المناسبات الاجتماعية والأعياد للزينة والتفاخر.
الجانب الإيجابي والسلبي للأسلحة
حول الجانب السلبي لاستخدام الأسلحة في الأرياف اليمنية، تُروى قصص مأساوية عن استخدام تلك الأسلحة في أعمال العنف والتهديد، ممّا يهدد حياة المواطنين؛ إذ تقع حوادث القتل الخطأ بشكل متكرر، ويُقتل أحد أفراد الأسرة أو الجيران أو المارة عن طريق الخطأ؛ بسبب إطلاق النار العشوائي، كما تستخدم الأسلحة أحيانًا في حالات الانتحار؛ ممَّا يخلف وراءه مآسي إنسانية لا تُنسى، وتلعب دورًا رئيسيًّا في تفاقم النزاعات على الأراضي، وحتى المشاكل الأسرية التي زادت من حِدّة التوتر.
فيما يرى بعض المواطنين في الأرياف أن الاحتفاظ بالأسلحة في المنازل يعدُّ استثمارًا لمستقبل العائلة، بعدِّها جزءًا من الإرث العائلي، ورّثها الأجداد إلى الأبناء؛ ممّا يعزز الشعور بالانتماء والتاريخ العائلي، مثل الأراضي الزراعية، والعقارات، والمجوهرات، وذات قيمة مادية كبيرة، يمكن بيعها أو استبدالها في أوقات الحاجة.
واقع الحياة الريفية يفرض وجود السلاح
تتميز المناطق الريفية في اليمن بطبيعة جغرافية وعرة، وندرة وجود أجهزة الأمن؛ الأمر الذي يعدُّ حمل السلاح فيه ضرورة لبعض الأشخاص، خاصة عند التنقل بين القرى في ساعات الليل المتأخرة، وذلك لحماية أنفسهم من أيّ مواجهات تعترضهم؛ من حيوانات شرسة، أو لصوص، أو قطاع طرق.
هذا ما حدَّثنا به سعيد علي (مواطن من إحدى قرى محافظة ريمة)؛ إذ قال: “في ظل الطرق الوعرة الخالية من المنازل التي تتمتع بها بعض القرى الجبلية بالمحافظة، بات حمل السلاح ضرورة لبعض الأشخاص، خاصة أثناء تنقلاتهم؛ وذلك لغرض تأمين أرواحهم من أي مخاطر تذكر، خاصة في المناطق النائية، والأودية التي لا تخلو من حيوانات مفترسة”.
وأوضح أنّ بعضًا من المواطنين في القرى يذهبون لزيارة أقاربهم في قرية بعيدة في النهار، ويضطرون للمكوث فيها لوقت متأخر من الليل، وأثناء عودتهم إلى منازلهم ليلًا يكون السلاح هو الرفيق الوحيد، الذي يدافعون به عن أنفسهم من أيّ مخاطر تحيط بهم في طريق العودة.
في حين يلجأ بعضهم إلى حمل السلاح لحماية أنفسهم وممتلكاتهم، توجد استخدامات أخرى للسلاح في الريف اليمني، بعضها إيجابي وبعضها سلبي، فهناك من يستخدم الأسلحة أثناء حراسة المحاصيل الزراعية من السرقة والاعتداءات، وبعضهم يتخذه زينة شأنه شأن (الجنبية)، يتباهى به بين أفراد المجتمع.
كما أنّ هناك مَن يعدُّ السلاح من العادات والتقاليد الراسخة في المجتمع الريفي، كما يستخدم من قبل بعض أبناء الريف لصيد الحيوانات البرية، كنوع من الترفيه، وأيضًا لصدِّ القرود التي تهاجم الأراضي الزراعية، ويستخدمه آخرون في تعلم الرماية.
ومن ضمن العادات التي تستخدم في الأرياف اليمنية، وضع السلاح كرهن ذات قيمة، مقابل الحصول على مبلغ مالي وقت الحاجة، ليعاود استرداده عند دفع المبلغ. ومن ضمن العادات الريفية إطلاق الأعيرة النارية بشكل كبير ابتهاجًا في مناسبات عديدة؛ مثل الأعراس، أو مولود جديد، أو نجاح طالب وتفوقه في دراسته.
التكوين الاجتماعي وتأثيره على حمل السلاح
إنّ بعض المناطق الريفية في اليمن تشكل استثناءً لظاهرة حمل السلاح واقتنائه؛ إذ تخلو منازلها من وجود أي قطعة سلاح، نتيجة طبيعة الحياة في تلك المناطق التي تتميز بوجود بيئة آمنة ومستقرة، بالإضافة إلى التكوين الاجتماعي وتضاريسها. هذا ما أشار إليه الأكاديمي في علم الاجتماع الدكتور ياسر الصلوي؛ إذ يقول لصحيفة (صوت الأمل): “يختلف واقع بعض المناطق الريفية في اليمن التي تعزّز ثقافة حمل السلاح فيها مقارنة بمناطق أخرى؛ إذ يتوقف الأمر على الطبيعة الجغرافية والتضاريسية للمنطقة الريفية، وارتباطها بالسكان والتكوين الاجتماعي فيها”.
وأوضح أنّ المناطق الريفية التي تتسم بالنظام القبلي، ويقطن بها البدو، وتتميز بتضاريس وعرة، تعزّز ثقافة حمل السلاح بين أفرادها، لإيمانهم بأهميته في حماية أنفسهم وممتلكاتهم، والدفاع عن أنفسهم من أي خلافات اجتماعية قد تنشأ، وتؤدي إلى صراعات عبر مُدد زمنية مؤقتة أو طويلة، لذلك يعدُّ حمل السلاح جزءًا من تركيبة الفئات السكانية في تلك المناطق.
ويشير إلى أن هناك مناطق ريفية أخرى تنتشر بها الأنشطة الزراعية والتجارية، وينشغل سكانها بتطوير الوسائل والطرق لكسب العيش وتحسين مستواهم المعيشي، وتكون حياتهم شبه مستقرة، فتجد تلك المناطق تخلو من وجود الأسلحة فيها، وبالتالي ليس كل ريف يعزز ثقافة حمل السلاح.
من جهتها تقول الباحثة والكاتبة السياسية (رشا كافي): “بطبيعة الحال، المجتمع اليمني يعدُّ مجتمعًا مسلحًا، وقد زادت حدة انتشار الأسلحة في السنوات الأخيرة نتيجة الصراع. ولا تتوقف عند حمل الأسلحة الخفيفة فقط، بل امتدَّ الأمر إلى حمل أسلحة ثقيلة واقتنائها، مثل “الأربيجي” و”الرشاش” وحتى “الألغام” والقنابل اليدوية وغيرها”.
وتُبيّن أن أهم التحديات التي تواجه المجتمع الريفي نتيجة انتشار الأسلحة تتمثل في ارتباط الفرد في الأرياف بالثقافة القبلية التي تعزز من وجود السلاح، بعدّهِ هيبة الرجل في المجتمع القبلي الريفي؛ إذ يستخدم كنوع من التحكيم عند شيخ القبيلة أو المسئول في قرية ما في حال حدوث مشكلة بين طرفين.
وتضيف: “إنّ مسألة انتشار السلاح في المجتمع الريفي كانت موجودة من قبل الصراع، ولكنها انتشرت أكثر بعد الصراع في ظل انعدام الأمن، وبروز قضايا الثأر بين عدة أطراف في القرى الريفية، وأيضًا نتيجة السطو على الأراضي الزراعية من قبل نافذين”.
وتؤكد الباحثة في حديثها أنّ المجتمع الريفي أكثر تلاحُمًا، مقارنة بالمجتمع اليمني في المدن، بحكم بساطته وصغر تكوينه؛ إذ يتسم بأنّه متماسك وقت الشدائد، فيمكن حل مشكلة انتشار السلاح في الريف بسهولة إذا فُعّلت الأجهزة الأمنية بشكل قوي.
وعن دور الجهات المعنية في الحد من انتشار الأسلحة تقول كافي: “القانون نفسه ساعد في انتشار حمل السلاح؛ كونه أعطى الحق في ذلك، إلى جانب الانفلات الأمني الذي ساعد في توسع انتشاره من قبل المواطنين، خاصة أنّ الجهات لم تقُم بدورها في الحد من حيازة السلاح حتى في المناطق المستقرة، بل يحمله القائمون على محاربة الظاهرة أنفسهم”.
تأثير السلاح على المجتمع الريفي
في هذا الشأن يقول عبد الكريم غانم -باحث في علم الاجتماع السياسي- : “أدّى السماح بامتلاك المواطنين للسلاح إلى الإخلال بحق الدولة في الانفراد باستخدام العنف المسلح؛ إذ تطورت ظاهرة امتلاك الأفراد للسلاح الخفيف إلى تشكل جماعات مسلحة قبلية وطائفية، تمتلك أسلحة ثقيلة، وتنازع الدولة سلطتها”.
ويتابع: “وقد تسببت ظاهرة حمل السلاح في المجتمع اليمني، سواء في الأرياف أو المدن، بسقوط كثير من الضحايا، من خلال تطور المنازعات التي تنشب بين الأفراد إلى استخدام السلاح، وإطلاق النار على الخصوم، وسقوط قتلى وجرحى. كما يترتب عليه خسائر في الممتلكات، وتوقف في الأعمال التجارية، مما يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الثأر والقصاص، وفرض غرامات مالية على المتسببين في إطلاق النار، كتعويض للضحايا؛ وهذا يسبب لهم عبئًا ماليًّا كبيرًا. مع أن تلك الخسائر كان يمكن تفاديها، إذا حُلَّ الخلاف بعيدًا عن استخدام السلاح، واللجوء إلى الجهات الرسمية والاحتكام للصلح”.
يوضح غانم أنّ سلبيات استخدام السلاح في المجتمع اليمني لا تقتصر على قضايا القتل العمد، فالعديد من الضحايا يسقطون سنويًّا؛ إمّا بسبب الراجع من الطلقات النارية، أو القتل عن طريق الخطأ. ويرى أنّ من التأثيرات السلبية غير المباشرة للسلاح في اليمن إعادة إنتاج النزعة الذكورية في المجتمع؛ فاستخدام السّلاح -الذي يكاد أن يكون شأنًا ذكوريًّا في مجتمع تقليدي كاليمن- يعمل على تعزيز قوة الذكور، بعدِّهم القائمين بتوفير مهمة الدفاع والأمن للعائلة، مما يترتب عليه من تفاقم حالة اللامساواة القائمة على النوع الاجتماعي، وعند اقتسام ممتلكات الأسرة من السلاح قلما يكون للنساء منها نصيب.
ويضيف في حديثه: “تتمثل إيجابيات السلاح في اليمن في كونه يمثل جزءًا من مدخرات العائلة التي قد تلجأ لبيعه عند الحاجة؛ لمواجهة متطلبات الحياة الأساسية، كما أنّ السلاح في المجتمع اليمني يُشكل قوة ردع تحول دون تقوية فرد على آخر، أو مجموعة على مجموعة أخرى، وتمنح الشخص الذي لا يملك قوة بدنية كبيرة أو كثرة عددية نوعًا من الأمان في مواجهة خصومه، في مجتمع الغلبة فيه لقانون القوة على قوة القانون”.
ولا يختلف رأي رشيد محمد (ناشط مجتمعي)، كثيرًا عمَّا طرحه غانم؛ إذ يرى أنّ استخدام السلاح في المناطق الريفية له أثره السلبي والإيجابي، وتتمثل الآثار السلبية في ارتكاب جريمة القتل بحق أناس أبرياء، وقيام بعض الناس بتهديد خصومهم بقوة السلاح؛ للإذعان والخضوع لمطالبهم، إلى جانب تعرض بعض الأبرياء لارتكاب جرائم القتل بالخطأ جراء سوء استخدام السلاح.
ويتابع حديثه: “ومن الآثار السلبية كذلك تهديد السكينة العامة في المجتمع بمجرد حدوث أبسط خلافات فردية أو جماعية، وحدوث ثارات مجتمعية متوارثة؛ بسبب سوء استخدام السلاح، واستقواء بعض الشخصيات والوجاهات على الضعفاء بقوة السلاح، وكذلك أدّى تمكين الأطفال من حمل السلاح إلى حدوث قتل خطأ في أوساط الناس الأبرياء”.
ويرى أنّ حمل السلاح عادة سيّئة تعكس صورة لمجتمع غير حضاري، ويعدُّ إهدارًا للأموال جراء إطلاق النار العشوائي إلى الجو في المناسبات، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة التباهي بحمل السلاح واقتناء أغلى الأسلحة.
ويضيف في حديثه: “تحولت بعض المناسبات الاجتماعية إلى مأتم بسبب سقوط ضحايا أبرياء، إلى جانب ظهور عصابات مسلحة تعمل على نهب ممتلكات الناس بقوة السلاح”.
أما الآثار الإيجابية من حمل السلاح في الأرياف، فهي بحسب رشيد تتمثل في امتلاك السلاح من أجل الدفاع عن النفس والمال والعرض؛ إذ يعدُّ السلاح ذا قيمة كبيرة، واقتناؤه يُعدُّ بمثابة حيازة مال يحتفظ به لوقت الضرورة، ويوظف في تعلّم الرماية التي تعدُّ أمرًا ضروريًا في المجتمع الريفي، ويستخدم كوسيلة للصيد؛ مثل صيد الأرانب البرية، وبعض الطيور المفيدة، وكوسيلة أيضًا لتأمين حياة الشخص أثناء تنقله من منطقة إلى أخرى، وخاصة في أوقات الليل.
بشكل عام، هناك أبعاد كثيرة ساعدت في انتشار ظاهرة حمل السلاح في الأرياف اليمنية على مرِّ الزمن، تتمثل في الحماية الشخصية، والعادات والتقاليد الراسخة التي توارثت؛ من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء، والنزاعات القبلية المتكررة التي ساعدت على انتشار السلاح بين أبناء القبائل المختلفة، بالإضافة إلى حماية المحاصيل الزراعية من السرقة والاعتداءات، وغيرها التي لا يمكن تغييرها بين عشيّة وضحاها.
83.2%من المشاركين في الاستطلاع يعتقدون أن حمل السلاح في اليمن له علاقة وثيقة بالثقافة الشعبية اليمنية
صوت الأمل – يُمنى الزبيري منذ قديم الزمان، ارتبطت حيازة السلاح بالعادات والتقاليد ال…