تأثير الصراع في اليمن؛ انتهاك حقوق الأغنية التراثية التقليدية
صوت الأمل – أحمد باجعيم
تتميز الأغنية اليمنية التراثية بأنماطها وألوانها المتعددة، التي تعكس ثقافة عريقة ومتنوعة لليمن، فمن كلماتها التي تحمل معاني عميقة ومؤثرة يُوصف واقع الحياة التاريخية للبلاد وصفًا دقيقًا، إلى الألحان المتنوعة التي تجسد الموروث الثقافي اليمني، الذي يزخر به اليمن على مدى عصور، هذه الألحان تلامس مشاعر الجمهور، وتثير فيهم العواطف والأحاسيس.
أسهم العديد من الشعراء والفنانين والملحنين في إثراء الموروث الغنائي اليمني، ومن أشهرهم “أبو بكر سالم بالفقيه” و”عبد الرب إدريس” و”كرامة مرسال” و”محمد حمود الحارثي” و”أيوب طارش” و”محمد مرشد ناجي” و”محمد سعد عبد الله” وغيرهم من الفنانين الذين لامست أغانيهم مختلف جوانب الحياة.
مع اندلاع الصراع في اليمن منذ أكثر من تسع سنوات، واجهت الأغنية اليمنية التراثية تحديات جمّة وبصورة سلبية؛ إذ ظهر تغيير في الألحان والكلمات ومصادرة الحقوق الملكية لكثير من الأغاني التقليدية وانتسابها إلى غير مالكيها الحقيقيين، كما أثر الفراغ الثقافي في توقف العديد من الفعاليات الثقافية والغنائية، وضعف الحفاظ على الموروث الغنائي من قبل الجهات المعنية، الأمر الذي أدّى إلى افتقار الإبداع والابتكار، واللجوء إلى سرقة الألحان والكلمات من أجل الشهرة.
تأثير الأغنية اليمنية ومصادرتها
وثّقت صحيفة “الاستقلال” التونسية في مارس 2021م حجم السطو الذي وقع على الأغاني والألحان التراثية اليمنية من قبل فنانين من الدول العربية، عبر فيديوهات قديمة تثبت أصالة الأغنية للفنانين اليمنيين، والذي جاء بعنوان: “فنانون خليجيون يسرقون أغانيَ وألحانًا تراثية يمنية”؛ إذ أكّد التقرير أنّ الفنان السعودي محمد عمر ادّعى أنّ أغنية “خطر غصن القنا” تعود إليه، في حين هي أغنية يمنية مشهورة؛ من كلمات الشاعر اليمني مطهر الإرياني، وغنّاها الفنان علي الآنسي في سبعينيات القرن الماضي.
وأشار التقرير إلى أنّ أغنية “يا منيتي يا سلا خاطري” لم تسلم من انتحال مالكها الحقيقي؛ إذ روجت جهات إعلامية خليجية أنّ الأغنية لفنان كويتي، ولكن في الحقيقة هي تعود للفنان “أحمد القمندان” وغناها الفنان فضل اللحجي عام 1939م، كما نسبَ الفنان الشهير راغب علامة أغنية “سر حبي فيك غامض” إلى التراث الخليجي، ولكن في حقيقة الأمر هي أغنية يمنية مشهورة للشاعر الكبير حسين المحضار، لحّنها وأدّاها الفنان الشهير أبو بكر سالم.
كما قال رئيس مؤسسة نوافذ للثقافة محمد أنور بن عبد العزيز: “إنّ ضعف توثيق الأغاني التراثية وحفظها أحد أسباب انتحال بعض الشخصيات في الوسط الفني أغاني ليس لهم، أو عندهم معلومة غير صحيحة عن أصول الأغاني أو الألحان التي تعود إلى تراث بلد ما، وذلك نتيجة عدم الحفظ والتوثيق الصحيح؛ سواء عبر إعادتها في الحفلات الموسيقية أو تسجيلها”.
وأضاف: “أنّ المشكلة الكبرى التي يعاني منها التراث الغنائي القديم أنّه لا يمكن أن تثبت أحقية المادة الفنية دون التوثيق أو الرجوع إلى صاحبها الحقيقي، في حين هناك انتحال آخر لكلمات أو ألحان لأغانٍ موثّقة”.
وأردف قائلاً: “إنّ رد الجمهور لمثل هذه السرقات مبني على دراية بملكية المادة التراثية لصاحبها الحقيقي، التي تغنّى بها بعض الفنانين العرب، وإنّ الجمهور له وعي كامل بملكية المادة الفنية وبأصلها، ومع ذلك يظل العائق الوحيد ضعف حفظ التراث اليمني أو انعدامه؛ إذ إنّ كثيرًا من الشعراء والفنانين والملحّنين رحلوا دون أن توثَّق وتُحفَظ أعمالهم الفنية، وبوفاتهم فقدت اليمن جزءًا مهمًّا من التراث الغنائي الأصيل”.
وأضاف بن عبدالعزيز: “أنّ الفن والثقافة عمومًا لا تزدهر إلَّا في وجود الأمن والاستقرار، وأنّ بيئة الصراع تعد بيئة طاردة للإبداع والمبدعين، وتنعكس سلبًا على إنتاجاتهم الفنية والفكرية، وسنوات النزاع عمّقت من الحالة غير المتزنة والسوية التي رافقت الأحداث، فمِن الطبيعي أن يتغيب بشكل جزئي أو كلي اهتمام الدولة ورعايتها للفن والفنانين والمبدعين والمثقفين، كما أنّ ميزانية الفن والثقافة قد تقلّصت كثيرًا بسبب الحالة الاقتصادية المتردّية، وهناك عزوف حقيقي من المنظمات الدولية والإقليمية الداعمة للنشاط الثقافي، الأمر الذي زاد الطينَ بِلَّة، وما يتحقق الآن ما هو إلا جهود ذاتية من مبدعين ومهتمين”.
من جهته، أوضح رئيس جمعية اتحاد الفنانين في حضرموت الموسيقار طارق باحشوان أنّ الصراع أثّر بدرجة مباشرة على الفن الغنائي التراثي اليمني، ممّا تسبب بعزوف كثير من الفنانين، وتوقف نشاطهم الفني، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، والفراغ الثقافي الناتج عن ضعف دور الدولة متمثلة بوزارة الثقافة، وعدم مقدرتها القيام بدورها اتجاه الفن الغنائي التراثي، كما أصبح دور منظمات المجتمع المدني أو المؤسسات المحلية فيما يتعلق بالملكية الفكرية للتراث الغنائي محدودًا وغير مجدٍ في ظل الظرف الراهن الذي تمر به البلاد، على العكس تمامًا في الأزمنة الماضية؛ فقد حققت فيها الجهات والمؤسسات المعنية نجاحات كبيرة في إبراز الفن الغنائي.
كما أشار إلى أنّه على الرغم من تأثير الصراعات على التراث الغنائي، فإنّه ما زال يحقق نقلات نوعية وشهرة واسعة على مستوى الوطن والعالم العربي؛ عبر التغني به في جميع الفعاليات والمهرجانات المحلية والعالمية، وأنّ فقط عملية التوثيق وتعريف المجتمع ببعض الأعمال الفنية اليمنية لم يكن حاضرًا بالشكل المطلوب، ممّا جعله عرضة للسلب من بعض الفنانين بطرق غير شرعية، مستغلين غياب الرادع القانوني من قبل الجهات المسؤولة.
التأثير المجتمعي
يقول الفنان سعيد السلوم: “إنّ غياب وزارة الثقافة والجهات المعنية الأخرى عن حماية الحقوق الملكية جاء نتيجة النزاع المسلح الذي ألقى بكاهله على المواطن بدرجة رئيسية والفن الترثي بشكل عام، سواء على مستوى الأعمال التراثية والغنائية أو على الشعراء والملحنين المجددين للفن التراثي الغنائي القديم، كل ذلك أعطى غيرهم الجرأة في التعدي على الألحان التراثية، والتعديل عليها، ونسبها لنفسه دون أيِّ رادع يذكر”.
كما أشار السلوم إلى أنّ تشكيل الرأي العام الذي يتبناه المجتمع على المواقع الافتراضية – ساعد بشكل كبير في تراجع الفنانين المنتحلين لحقوق الملكية بالنسبة للأغاني والألحان أو الكلمات عن الاعتداءات التي تمارس ضد التراث الغنائي اليمني الأصيل، كما ساعد في تعريف العالم العربي والعالمي بالتراث الغنائي اليمني، وكشف الفنانين المنتحلين أمام الرأي العام، مما تسبب في تقليل حجم الجمهور المتابع لهم، ورفع نسبة التشكيك بأعمالهم، الأمر يعد رادعًا لمن يحاول أن يسرق مجهود غيره وينسبه إليه.
إلى ذلك ذكر تقرير بعنوان “الجسمي يحذف أغنية بعد اتهامات بسرقة ألحانها من فنان يمني” 2018م، أنّ الفنان الإماراتي حسين الجسمي نشر أغنية “حبيتها” التي نسب ألحانها إلى التراث الإماراتي، ليعود بعد ساعات إلى حذفها بعد موجة تعليقات كبيرة بينت أنّ الألحان من التراث اليمني، وتعود إلى الملحن حداد الكاف، الأمر الذي ظهر أمام الجمهور بأنّه انتهاك صارخ بحق الفن الغنائي التراثي اليمني، ويعود السبب إلى تراجع الجهات التي توثق وتحفظ الإرث الفني من الاندثار أو انعدامها.
التوصيات
بن عبد العزيز عدّدَ بعض التوصيات لما من شأنها حفظ التراث الغنائي اليمني، أهمها: العمل على تأهيل كادر فني من العازفين والمهتمين والمثقفين، وتدريسهم في أعلى الجامعات ليتفرغوا بعدها للبحث العلمي الأكاديمي بما يتعلق بالفن التراثي، والفهم الكامل لتفاصيل التراث الغنائي بشكل صحيح لعمل دراسات مقارنة في ما هو موجود في الوقت الحالي وسابقًا، وتاريخه وكيف تطور، الأمر الذي سيسهم في تشكيل النواة الحقيقية لإنشاء معاهد أكاديمية في مجال الفنون والتراث ومراكز الدراسات والبحوث، والعمل على التوثيق الرقمي عبر مخرجات العصر من التكنولوجيا الرقمية، ومنه يستطيع توثيق التراث وتبويبه.
كما ذكر رئيس مؤسسة نوافذ للثقافة محمد أنور بن عبد العزيز أنّ حفظ التراث الغنائي وتبويبه باسم الشاعر والملحن والمغني والعازف وغيره عبر برامج بالشكل الحديث يسهل على المهتمين استخراجه والبحث فيه وتطويره، كما أنّ مؤسسة نوافذ للثقافة تحثُّ رجال الأعمال على دعم المشاريع الفنية والتراثية لسد الفراغ الذي وقع من قبل الدولة ومؤسساتها، بالإضافة إلى إعادة بناء “صندوق التراث والتنمية الثقافية” وتقويمه في محافظة حضرموت، الذي تأسس عام 2018م وإلى اليوم لم يقدّم شيئًا يذكر في المهام الموكلة إليه والمرجوة من إنشائه.
واستعرض باحشوان عددًا من المقترحات تمثلت في مطالبة الدولة بتفعيل دور أجهزتها الرقابية، والملحقيات الثقافية والإعلامية الموجودة في السفارات، والاهتمام بالثقافة على المستوى المحلي والعربي وتنشيطها بشكل فعّال، خاصة الموروث الغنائي، وتعيين مختصين وكوادر مؤهلة في المناصب القيادية في الوزارة ذات خبرة وكفاءة، لما من شأنه إعادة الثقافة اليمنية للواجهة، وتكريس الجهود في مجال الفن اليمني الغنائي، والعمل على التوعية المجتمعية بالحفاظ عليه، ومواجهة كل من يقوم بسرقته.
وأكد أنّ هذه المقترحات لن ترى النور إلَّا في بيئة مستقرة وآمنة، ووضع اقتصادي أفضل، ولن يحصل إلَّا بإنهاء الصراع وإحلال السلام في ربوع الوطن.
الفنان سعيد السلوم ذكر بعض المقترحات لمجابهة مصادرة الحقوق الملكية، وتغيير الكلمات والألحان للأغاني التراثية اليمنية قائلًا: “إنّه على كل فنان أعدّ عملًا جديدًا يقوم قبل إطلاقه بتوثيقه في وزارة الثقافة؛ كيلا يتعدّى عليه من قبل أيّ فنان آخر في المستقبل، وإنّ أي عمل غنائي عمره تجاوز أل (30) عامًا يتطلب من الجهات المسؤولة توثيقه؛ كونه يعدُّ من الموروث القديم، كما أنّ في البلدان الخارجية لا يمكن إقامة حفل غنائي إلَّا بموافقة أصحاب المادة الغنائية من شاعر وملحن وعازف والفنان نفسه، أو تصريح من وزارة الثقافة نفسها، لهذا لو تطبق الأمر في اليمن لكان الوضع مغايرًا تمامًا”.
وأشار السلوم أنّه قد سبق وطُرح مع وزير الثقافة قبل عدة أعوام كيفية مجابهة مصادرة الأعمال والأغاني التراثية والتعدي الحاصل على التراث الغنائي اليمني من الخارج؛ إذ تأكّد في تلك المدّة أنّهم في صدد تأطير التراث الغنائي اليمني ضمن التراث العالمي وتوثيقه، وستكون نتائجه إيجابية على الواقع المحلي، كما سيضع حدًّا أمام مصادرة الحقوق الملكية للأعمال، وتوثيق “الدانات” الحضرمية المتعددة أو كما هو معروف بـ”الدان” الحضرمي، ومنه الدان “المشقاصي” و”الدان” الخاص بمناطق وادي حضرموت وغيرها؛ إذ يعدُّ الدان الحضرمي من أشهر الفنون الغنائية اليمنية التراثية وهو شبيه “للموال” في الدول العربية الأخرى.
إن التأثير السلبي الذي تسبب به النزاع المسلح يتجلّى بوضوح على كل مفاصل القطاعات في اليمن، ولعل الهوية التراثية والأغاني التقليدية إحدى القطاعات، نتيجة تشتت الفنانين والموسيقيين، ودمار البنية التحتية للصناعة الموسيقية، وقلة الدعم والاهتمام بحفظ التراث القديم ونقله إلى الأجيال الجديدة، فالأغاني التقليدية التي كانت تعبّر عن ثقافة اليمن وهويته تتعرض بعد نشوب الصراع للخطر، وعلى الرغم من ذلك هناك تأكيدات على أهمية تكاتف الجهات الحكومية والخاصة والمنظمات الدولية المعنية للحفاظ على هذا التراث الثقافي الثمين.
73.2% من المشاركين يعتقدون أن التراث الغنائي في اليمن يعكس الهوية الثقافية اليمنية بشكل كبير
صوت الأمل – يُمنى الزبيري يعد الفن الغنائي واحدًا من أقدم الفنون في التاريخ وأكثرها …