الأغاني التراثية اليمنية في عصر الوسائل الإعلامية الحديثة
صوت الأمل – هبة محمد
في اليمن، تتمتع الثقافة الموسيقية التراثية بمكانة مرموقة وتاريخ غني يمتد لقرون عديدة؛ إذ يعد التراث الغنائي اليمني أحد أهم ركائز الثقافة الشعبية، ويحمل بين نغماته وكلماته ثراءً فنّيًا يعبر عن هوية الشعب اليمني وتاريخه العريق. ومع تقدم وسائل الإعلام اليمني وتطورها، أصبح للإعلام دور بارز في تسليط الضوء على تراث اليمن الغنائي وإظهاره للعالم.
التراث الغنائي في الإعلام اليمني
يحتفظ التراث الغنائي اليمني بمكانة فريدة في قلوب الناس؛ إذ يمثل رمزًا للهوية الثقافية والتراث العريق للبلاد. وفي عصر التكنولوجيا، لعبت وسائل الإعلام دورًا حيويًا في تسليط الضوء على هذا الفن الجميل وإبرازه أمام العالم، وهذا الدور في ترويج التراث الغنائي وتعزيزه لا يقتصر فقط على نشره وإذاعته، بل يشمل أيضًا توثيقه والحفاظ عليه للأجيال القادمة.
يقول الإعلامي أحمد الشريفي: “دور وسائل الإعلام اليمنية في تعزيز الوعي حول أهمية الأغاني التراثية لا يمكن تجاهله، ومن الضروري أن ندرك أن غالبية الأغاني المنتشرة حاليًا هي أغانٍ تراثية، لكن الفرق في تعدد أصوات الفنانين المغنيِّن لها، فقط”.
ويكمل: “للأسف، تم إعادة إنتاج الأغاني التراثية بأصوات شبابية بشكل يشوه الأداء وأحيانًا اللحن، وأدت قاعات الأفراح في زيادة هذا التشويه؛ إذ يقتطع بعض الفنانين الشباب بعض أبيات القصيدة الغنائية ثم يكملونها بكلمات من أغنية أخرى؛ مما أدى إلى تشويه المضمون، خاصة بالنسبة للأغاني التي تعبر عن قصة مترابطة”.
ويوضح بالقول: “وفيما يتعلق بدور وسائل الإعلام، يجب أن ندرك أن الوضع الحالي الذي تعيشه البلاد جعل الاهتمام بهذا الجانب شبه معدوم لدى الإعلام الخاص. أما الإعلام الحكومي فهو منعدم تمامًا، سواء من حيث بث الأغاني التراثية أو تنظيم برامج لتعزيز الوعي بأهمية هذه الأغاني أو غير ذلك”.
من جانبه يشارك الدكتور أحمد عقبات -عميد كلية الإعلام سابقًا- بالقول: “وسائل الإعلام اليمنية لا تألو جهدًا في تقديم أغاني التراث اليمني في برامجها المرتبطة بطلبات المستمعين والمشاهدين، وكذلك الاستفادة من الألحان كموسيقى تصويرية للبرامج الوثائقية وبداية الفقرات، مما يعني أن تقديم تراث الأغاني اليمنية يعزز الوعي بأهميته تلقائيًا في الإذاعات المسموعة والقنوات الفضائية”.
ويرى الشريفي أن عدم الاهتمام بالتراث الغنائي جعله عرضة للسرقة من قبل بعض الدول الأخرى؛ إذ تم إعادة إنتاجه واستغلاله دون الحفاظ على جوهره وروحه الأصلية؛ لذلك يجب على وسائل الإعلام اليمنية أن يكون لها نشاط فعال في تعزيز الوعي حول أهمية الأغاني التراثية والمساهمة في حماية هذا الثروة الثقافية القيمة.
وعن أهم القنوات الفضائية التي تبث جلسات خاصة بالتراث الغنائي يقول الشريفي: “فيما يتعلق بالقنوات اليمنية التي تهتم بعرض الأغاني التراثية، يجب أن نلاحظ أن وسائل الإعلام، خاصة في المناطق التي تعاني من ويلات الصراع، غالبًا ما تكون معدومة، ومع ذلك فإن بعض القنوات الخاصة -مثل قناة اليمن اليوم- تقدم مساحة محدودة لبث الأغاني خلال وقتي العصر والظهيرة. وكذلك تفعل قناة السعيدة وقناة يمن شباب، ونادرًا ما تقوم قناة المهرية ببث الأغنية القديمة التي تعد من التراث اليمني”.
ويوافق على ذلك د. عقبات الذي يرى أن بعض القنوات -كالسعيدة واليمن الفضائية واليمن اليوم، وغيرها- تسعى إلى عمل عرض يومي في ساعة المقيل لهذه الألوان الغنائية التراثية، مما يعني أن هناك قبولًا جماهيريًا واسعًا يؤكد استمتاع المشاهد بهذا التراث اليمني الجميل في كل الأوقات. ولعل هذه الأغاني تجمع كل المواطنين في ربوع البلاد في وحدة استماعٍ واستمتاعٍ منقطع النظير للألوان الغنائية المتنوعة”.
فيما يقول الإعلامي أمين الغابري: “تُعد الأغاني التراثية اليمنية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية اليمنية؛ إذ تُجسد تاريخًا عريقًا لليمن وتشرح المشاعر البريئة والأحاسيس الطيبة التي مضى عليها اليمنيون طيلة الارتباط الحميم بينهم وبين الأغنية التراثية”.
وأشار الغابري إلى أنه على الرغم من غزارة الأغاني الجديدة وتنوعها، فإن الأغنية اليمنية التراثية ما تزال تحتفظ برونقها وقوتها العابرة في قلوب الناس، وتقف بثبات عالٍ وتتنافس مع الأغاني الحديثة. ويؤكد على وجودها القوي وقيمتها الثقافية.
في هذا السياق يكمل الغابري: “تأتي وسائل الإعلام ليكون لها دور فاعل في تعزيز الوعي بأهمية الأغاني التراثية وتعزيز وجهها الجميل كممثلة للثقافة اليمنية؛ فهي تحمل معها تراثًا ثمينًا يجب الحفاظ عليه وحمايته من الاندثار”.
ويقول: “يتعين على وسائل الإعلام تصوير الأغاني التراثية بمنظور جميل وجذاب، وتصديرها إلى العالم الخارجي كتراث غنائي فريد من نوعه يجسد جمال اليمن وثقافته، وبأنها مسؤولية مشتركة بين الفنانين والمنتجين والإعلاميين للمساهمة في الحفاظ على هذا الثروة الغنائية وتعزيزها لتكون إرثًا تستمتع به الأجيال القادمة”.
وأكد الغابري أن الإذاعة تُعد أقدم الوسائل الإعلامية، وعملت بشكل كبير على نشر الأغاني التراثية اليمنية، كإذاعة صنعاء وغيرها من الإذاعات المحلية، وما زال بعضها اليوم على عهدها بالأغنية اليمنية نشرًا وحفاظًا وهوىً”.
ويرى الغابري أنه على الرغم من تراجع وجود الصوت التراثي العريق في الساحة الفنية، فإن بعض الشاشات اليمنية تلتزم بتخصيص برامج لنشر الأغاني التراثية اليمنية؛ لملءِ مساحتها البرامجية بهذا الفن الأصيل، كتحرك مهم للابتعاد عن ضجيج الأغاني الهابطة التي اجتاحت الساحة الفنية وتملكت قلوب الكثيرين في الوطن العربي.
قنوات التواصل الاجتماعي والتراث الغنائي
يقول الإعلامي الشريفي: “تلعب قنوات التواصل الاجتماعي والتطبيقات، مثل فيسبوك واليوتيوب، دورًا مهمًا في الحفاظ على تراث اليمن وتعزيز الوعي حوله. ويدير القنوات والتطبيقات أفراد مهتمون بالثقافة والتراث اليمني، وقد أصبحت الآن مصادر رئيسية للمعرفة والتثقيف المتعلق بالتراث”.
ويواصل: “تشهد هذه القنوات مشاهدات كثيرة تفوق مشاهدات القنوات الفضائية الحكومية والخاصة. وبعض الشباب المهتمين والهواة تمكنوا من إعادة إنتاج بعض الأغاني التراثية بأصواتهم، ونظرًا للإقبال الكبير على هذه الأعمال، أصبحت مصدر رزق أساسي، بالإضافة إلى كونها هواية شخصية”.
ويرى الغابري أنه في الماضي كان هناك قليلٌ من الصحف والمجلات اليمنية التي تنشر مقالات حول الأغاني التراثية اليمنية، قبل أن تسحق وسائل إعلام التواصل الاجتماعي عهد الصحف والمجلات التي لم تعد بالمتناول حاليًا، وبعضٌ منها مُحدَّثة فصارت إلكترونيًا مسايرة لواقع اليوم، وقليلٌ من صفحات المواقع تُعنى بالأغنية التراثية إلى حد الندرة.
الأغنية التراثية والتماسك المجتمعي
يؤكد الشريفي أن كلمات الأغاني التراثية اليمنية أصبحت جزءًا من التراث تحمل مفاهيم تنسجم وتتطابق مع الهوية الثقافية، وتعزز تماسك المجتمع. ويمثل على ذلك بأغاني الأعراس، المعروفة أيضًا بالزفة، فكلمات التراث توصي العروس بالعفة واحترام الزوج وحفظ الأسرار. ومقابل ذلك، يطالب الفن الحديث بالتقاط صور سيلفي مع العروس، مما يعبر عن سطحية تلك التوعية في هذه المناسبة، ويعد تحدٍ للقيم التقليدية التي كانت تُعززها أغاني الزفة التراثية.
تحديات وتوصيات
“تواجه وسائل الإعلام تحديات متعددة في تعزيز الأغاني التراثية؛ فالتحديات لا تقتصر فقط على الجوانب القانونية، بل تمتد أيضًا إلى الوضع الراهن في المجتمع. كما يمكننا القول إن هذه التحديات تتمثل في التغيرات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها المجتمع، فالتطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي يؤثران على القيم والتقاليد التراثية، وقد يؤديان إلى تغير في الاحتفاظ بتلك القيم”، وفقاً للشريفي.
وعلى الرغم من ذلك، يرى د. عقبات أنه لا توجد تحديات جادة تواجه تسليط الضوء على الأغاني التراثية القديمة في اليمن عبر وسائل الإعلام، باستثناء الاهتمام الذي توليه وزارة الإعلام وتشجيع القائمين على هذا النوع من الفنون الشعبية، مشيرًا إلى ضرورة الاهتمام بتراثنا الثقافي الذي يعكس الاهتمام بالتاريخ والأصالة والمعاصرة.
ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل العقبات التي قد تعترض تعزيز الأغاني التراثية عبر وسائل الإعلام، فقد أوضح الشريفي تحديات أخرى تتمثل فى قلة الدعم والاهتمام من بعض الجهات المعنية، وقد ينتج ذلك عن عدم الإدراك الكامل للقيمة الثقافية والتاريخية لهذا التراث. كما قد تواجه الأغاني التراثية التحديات في التكيَّف مع الواقع الرقمي والتغيرات السريعة في ذوق الجمهور.
وأشار الشريفي إلى أن تعزيز الأغاني التراثية عبر وسائل الإعلام يتطلب جهودًا مشتركة من المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني والفنانين والإعلاميين، وتعزيز الوعي بقيمة هذا التراث وتوجيه الدعم المناسب للترويج له عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأن يكون هناك توازنٌ بين المحافظة على الأصالة والتقاليد واحترام التغيرات الاجتماعية والثقافية المعاصرة.
ويوصي بضرورة دعم وتشجيع الفنانين والموسيقيين الشباب في اليمن لاستلهام الأغاني التراثية وتقديمها بأساليب وتوجهات معاصرة، وتنظيم مسابقات وجوائز لتشجيع الإبداع وتعزيز الاهتمام بالأغاني التراثية الجديدة.
فيما يشير الغابري إلى أن الأغاني التراثية تعد ثروة ثقافية فريدة تتأثر بعدة عوامل مع مرور الوقت، منها المستويات الثقافية والنوعية، وبالأحداث السياسية التي تعيشها البلاد، وحالة الاستقطابات السياسية. ونتيجة لذلك، حسب الغابري، فإن التحديث الذي شهدته الأغاني القديمة قد أفرغها من بعض عبقها ورونقها، أو مَحَا العديد من عناصرها التقليدية. وعلى الرغم من أن هذا التحديث وجد استحسانًا من بعض الأجيال الحالية، فإنه أثار سخط الأجيال السابقة التي تعتز بتراثها الأصيل.
وأشار أيضًا إلى أن الجلسات الغنائية يمكن أن تسهم بشكل كبير في تعزيز الأغنية التراثية اليمنية القديمة، وجذب الجيل الجديد الذي يبحث عن الحداثة التي لا يجدها في التراث القديم، وأن لإقامة جلسات غنائية تقليدية لغناء الأغاني القديمة دورًا هامًا في إعادة إحياء هذا الفن الأصيل وجذب الاهتمام إليه من خلال هذه الجلسات، ليتمكن الجيل الجديد من الاستماع والتعرف على جمالية التراث الغنائي والتواصل مع العتاقة والخبرات القديمة.
73.2% من المشاركين يعتقدون أن التراث الغنائي في اليمن يعكس الهوية الثقافية اليمنية بشكل كبير
صوت الأمل – يُمنى الزبيري يعد الفن الغنائي واحدًا من أقدم الفنون في التاريخ وأكثرها …