لإحياء التراث الغنائي.. بوادر شبابية دون حاضن
صوت الأمل – حنين الوحش
تقوم الحضارة اليمنية على تراث غنائي خصب ومتفرد ومختلف عن غيره من فنون الغناء العربي. وقد ظل محافظًا على طابعه المميز والخاص، كطابع طربي في أغلبه، مع ما عاشه من إهمال، وأودى به المطاف إلى التجريف والمصادرة.
بدأ التراث اليمني الغنائي طربًا وأهازيجًا لقصائد غنائية يتسلمها الفنان الذي يعزف على عود منفردًا ثم يأخذ بتلحينها والصدح بها في المناسبات، كحفلات الزواج، وتناقلها الأجداد في حفلاتهم. غير أن الفجوة التي أوجدتها حداثة العصر، عصر السرعة، وضعت فراغًا هائلاً بين جيل اليوم وجيل الأمس في ظرف زمني قصير، وهو ما أبقى التراث الغنائي في الفراغ؛ لذا تُرِك معرَّضًا للسطو والاقتباس أو الاندثار والنسيان؛ فتُنسب أغانٍ تراثية يمنية -اليوم- إلى فنانين وشعراء من خارج اليمن.
ويُلقي غالبية الشباب باللوم والمسؤولية على الجهات الحكومية المعنية بحفظ التراث وتوثيقه وتجديده وتطويره أيضا، فيما يرى هذا التقرير أن المسؤولية مشتركة ولا بد من توجه شبابي نحو استصدار الأغاني التراثية واستلهامها، والإسهام في إحيائها ونشرها، وخلق ذائقة جمعية تجيد تذوق الشعر والغناء التراثي، إلى جانب مسؤولية الأكاديميين من ذوي الاختصاص في دراسة هذا التراث الغنائي الغني بصنوف وفنون مختلفة لا تُحد.
تندر في اليمن المبادرات الشبابية الهادفة إلى إحياء التراث الشعبي الغنائي، ومع ظهور بعض هذه البوادر فإنها بقيت فردية وفي نطاق ضيق ولم تحقق النتائج المرجوة منها لأسباب كثيرة.
إحياء الأغاني التراثية وتجديدها
في تعز، المحافظة التي تعد عاصمة للثقافة اليمنية لسنوات، ظهرت فيها بعض بوادر المبادرات الهادفة إلى تجديد الأغاني التراثية، أبرزها مبادرة “مشاقر” التي انطلقت منتصف أكتوبر 2020، ووصفها القائمون عليها بأنها، إلى جانب إحياء التراث الغنائي، تهدف إلى تجديده أيضا بنكهة عصرية تواكب تطلعات الجمهور وتعيد حضور الأغنية التراثية. غير أن هذا لم يكن هو الهدف المباشر للمبادرة، بحسب تصريحات الفاعلين فيها، ورأوا أن ذلك يأتي بهدف إحياء قيمَ السلام والمحبة التي تحملها الأغاني التراثية وتلطيف الأجواء المجتمعية.
وكانت الفنانة الصاعدة هاجر نعمان قد ترأست هذه المبادرة. ومع إعلانها لها شَكَت عدم وجود احتواء أو التفاف أو دعم لهذه المبادرة بما يجعلها قادرة على تأسيس فريق موسيقي متكامل. ورأى مختصون أن إحياء الأغاني التراثية نفسه لا بد أن يسبقه عملية تنقيب ودراسات منهجية حقيقية إلى جانب وجود خبرات فنية كبيرة تحفظ للقديم روحه وتحميه من التجريف أو التحريف.
وتلت مبادرة “مشاقر” التي غابت عن المشهد بشكل تدريجي مع عودتها المتأنية والمتأخرة، مبادرة شبابية أخرى في العام 2021م سماها القائمون عليها بـ”مشروع تهاميات” التي تهدف، بحسب إعلان المبادرة، إلى توثيق الأغاني التهامية وتقديمها للجمهور بوسائل التواصل الحديثة. وكان الفنان الصاعد عبد الله آل سهل هو رائد المبادرة، وحققت نتائج طيبة، خصوصًا مع ما حققته بعض الأغاني من رواج واسع، كأغنية “واوجون”. لكن المبادرة سرعان ما انحسرت؛ لبقائها خارج دائرة اهتمام القطاعين العام والخاص في البلد.
تحديات ومعالجات
مع مطلع العام 2024 أعلن الشاب سام البحيري، في تعز، عن مبادرة أخرى أسماها “شدو يمني”، قائلاً إن الدافع وراء المبادرة الهادفة إلى إحياء التراث الغنائي، هو ما يفرضه عليه عمله كمدير لـ”مؤسسة ميون للإنتاج الفني والإعلامي”، وهو اهتمام خلقه غياب المختصين في الأغنية اليمنية ما جعلها في نظره عرضة للسرقة والطمس من ذهنية الجيل.
وقال البحيري إن الاهتمام بالتراث الغنائي يعد نوعًا من الحفاظ على الهوية الوطنية، بوصفها كنزًا حضاريًا يميز الشعوب والمجتمعات عن غيرها، ويؤكد قائلًا: “لهذا كان مشروع تخرجي من الجامعة هو مشروع “شدو يمني”، لكن التحديات الكثيرة واجهتني، كغياب المختصين والدارسين وندرتهم وقلة المؤلفات، وصعوبة الحصول على أرشيف خاص بالأغنية اليمنية. وهذه تعد بالنسبة لي أقوى التحديات التي تواجه المبادرة في طريق إحيائها للأغنية التراثية”.
يعتقد البحيري أن غياب الصحفيين المُلمّين بالفن أيضًا يعد من التحديات، وكذا عدم وجود أي توجه أو اهتمام حكومي يجعل من الاشتغال على هذه الوظيفة أمرًا فرديًا سرعان ما يكتب له الانحسار.
ويضيف: “ضعف الثقافة الموسيقية لدى المجتمع والجيل الجديد هو آخر هذه التحديات والإشكاليات التي تحد من نجاح أي مبادرة شبابية. والغناء اليمني، الذي بدأ شفويًا ثم طربيًا، ظل محافظًا على بيئته ولم يتلقَ رواجًا يستحقه آن إنتاجه”.
من جانبه يرى بلال أحمد -من المهتمين بالتراث الغنائي- أن إحدى المعالجات الممكنة لمواجهة الاندثار والسطو الذي تعيشه الأغنية اليمنية القديمة هو خلق توجه حكومي حقيقي يتبنى تأهيل فريق من الباحثين المختصين، إلى جانب تأهيل فرق موسيقية غنائية، تتولى الأولى مهام التنقيب والتنقية فيما تتولى الفرق الموسيقية تقديم ألوان الغناء اليمني التراثي للجمهور.
وأشار إلى وجود حلقة مفقودة بين الأغنية اليمنية والجمهور العربي، ويرجِّح أن السبب يعود إلى أن القنوات والوسائل الإعلامية المحلية تقف وراء ذلك؛ فهي تحافظ على طابعها المحلي دون أن تتوجه إلى الجمهور الخارجي في أيٍّ من برامجها، مع عدم اهتمامها بالأغنية التراثية اليمنية، وإن أظهرتها فإنه في صورة عابرة، على حد وصفه.
يعتقد بلال أحمد أن وجود قنوات محلية مختصة بالفن وبث أغاني يمنية وعربية لاستقطاب مشاهدين عرب واستخدام الوسائل الترويجية الحديثة، كل ذلك يعد من المعالجات الممكنة لتصدير الأغنية اليمنية إلى الخارج بدلًا عن تعريضها للسطو الخارجي.
73.2% من المشاركين يعتقدون أن التراث الغنائي في اليمن يعكس الهوية الثقافية اليمنية بشكل كبير
صوت الأمل – يُمنى الزبيري يعد الفن الغنائي واحدًا من أقدم الفنون في التاريخ وأكثرها …