التراث الغنائي سفير لنشر الثقافة اليمنية عبر الأجيال؛ المايسترو القحوم أنموذجًا
صوت الأمل – أحمد باجعيم
تمتلك اليمن ثراءً ثقافيًّا فريدًا ومتنوعًا يميزها عن باقي البلدان العربية والعالمية، ويعد التراث الغنائي أحد أهمّ العناصر الثقافية التي تتميز بها اليمن؛ إذ تشكل جزءًا أساسيًّا من الهوية الوطنية للشعب اليمني. ويعدُّ الغناء بألوانه المتعددة “الصنعاني والحضرمي والعدني واللحجي والتعزي والتهامي واليافعي” وغيرها من الألوان – وسيلة فعالة لنقل القيم والتقاليد والتاريخ؛ كونه موروثًا ثقافيًّا يتجدد ويتطور عبر الأجيال.
كما تلعب الأغاني اليمنية دورًا حيويًّا في نشر الثقافة والوعي بالتراث الشعبي، لما تحمل في طياتها من قصص وحكايات مليئة بالمعاني والعبر، تعكس بشكل ملموس التجارب والحقب الزمنية التي عاشها الشعب اليمني على مرِّ العقود.
كما أنّ الأغاني التراثية تعد وسيلة للتعبير عن المشاعر والمواقف الاجتماعية والسياسية في البلد، كما يعد التراث الغنائي اليمني مصدرًا للإلهام والإبداع، تلهم الفنانين والموسيقيين المعاصرين لخلق أعمال فنية جديدة تجمع بين التراث القديم والحداثة تثري الثقافة اليمنية. ومن خلال هذا التقرير سنستكشف دور التراث الغنائي اليمني في نشر الثقافة المحلية، وكيف يسهم في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء.
تأثير الأغاني على المجتمع
قال المايسترو محمد القحوم في تصريح خاص لصحيفة (صوت الأمل): “إنّ الأغاني اليمنية تشكل نسيجًا ثقافيًّا يرتبط بمختلف نواحي الحياة الاجتماعية في اليمن؛ إذ تعد عنصرًا أساسيًّا في الثقافة اليمنية، ويتجلى هذا الارتباط في ربط الأغاني اليمنية بحرف معينة، مثل صيد الأسماك أو الزراعة أو الرعي أو النجارة أو البناء أو غيرها؛ إذ تعبر عن مشاعر العمال وصعوباتهم، وتخلد إبداعاتهم ومهاراتهم، كما ترتبط الأناشيد بالمناسبات الدينية المتنوعة التي تعزز الانتماء الديني، والأهازيج بالمناسبات الاجتماعية المختلفة طوال العام مثل الأعراس والمواليد، وبشكل عام تعدُّ الأغنية اليمنية أحد أبرز مكونات الهوية اليمنية، التي تعكس ثقافة اليمن وتاريخه وأفكاره ومشاعر شعبه.
وأضاف المايسترو القحوم أنّ تأثير الأغاني على المجتمع المحلي أصبح واضحًا للعيان؛ إذ تشكل عنصرًا مهمًّا في المناسبات الاجتماعية والثقافية، فلا تكاد أن تكون هناك مناسبة معينة إلا وتكون الأغاني التراثية جزءًا منها، تعبر عن مشاعر السعادة والانتماء، ولم تقتصر الأغاني التراثية على التأثير على المجتمع المحلي فقط، بل امتد تأثيرها إلى العالم العربي؛ إذ عرّفت هذه الأغاني العالم العربي بالثقافة المحلية والفن اليمني الأصيل، كما عكست الأغاني في الخارج البيئة الجغرافية والطبيعة؛ من خلال الكلمات والألحان والأصوات القوية في بعض الألوان، ورقتها في ألوان أخرى.
وأشار رئيس مؤسسة الرقة محمد بن بريك إلى أنّ الأغنية اليمنية لها هويتها وخصوصيتها المتميزة، سواء أكانت حضرمية أم لحجية أو يافعية أو عدنية أو صنعانية، فكل الألوان الغنائية التراثية تعد مرآة عاكسة للمجتمع اليمني المتنوع؛ إذ عبرت بجدارة عن حال المجتمع بأفراحه وحالته المزاجية المتناقضة في السلم والنزاع، وحب الوطن، والبعد والفراق وغيرها، ومع هذا فإنّ الأغنية اليمنية متنوعة الإيقاع والألحان، وجذابة وممتعة، فقد استطاعت أن تعبّر بحق عن مزاج الشارع اليمني، وعكست ثقافته لمُدد زمنية طويلة على المستوى المحلي والعربي والإقليمي.
الأغاني التراثية وتوثيقها
في أواخر شهر إبريل لعام 2014م ذكر تقرير (للجزيرة نت) بعنوان “البيت اليمني يوثق ذاكرة الموسيقى اليمنية”، أن البيت الموسيقي اليمني بقيادة الموسيقار اليمني فؤاد الشرجبي وثق الأغاني اليمنية، أغلبها أغانٍ تراثية تقليدية ومنها الحديثة والحرفية والدينية، وقد بلغ عدد الأغاني اليمنية الموثقة نحو (46) ألف أغنية؛ إذ تم توثيقها وفقًا لاسم المؤلف والملحن والمقام الموسيقي والمغني واللون الذي تعود إليه الأغنية، وأنواع الآلات الموسيقية التي استخدمتها الأغنية، وتاريخ تسجيلها، وكذا عدد الفنانين الذي تتابعوا في أدائها.
وفي هذا الصدد وثقت صحيفة “في خبر” المصرية على موقعها الإلكتروني مجموعة من الأغاني التراثية اليمنية القديمة، البعض منها تجاوز عمرها (400) سنة، ومن بين الأغاني أغنية محمد محمود الحارثي (أراك طروبا) وأغنية الفنان فيصل علوي الشهيرة (عاده صغير يربونه).
كما أنّ هناك أغانٍ للفنان الكبير أبو بكر سالم، منها (عاد قلبي معك أو رميته، والعنب في غصونه، وسر حبي فيك، ومدينة حضرموت) والعديد من الأغاني من الفنانين؛ محمد مرشد ناجي وكرامة مرسال ومحمد سعد عبدالله، وغيرهم العديد ممّن يزخر بهم وبأغانيهم التراث اليمني.
وأوضح المايسترو محمد القحوم أنّ توثيق الأغاني التراثية ينبغي أن يكون مرتبطًا بمبادرات أوسع لضمان نقل هذا التراث إلى الأجيال القادمة، وضمان فهم جيل الحاضر لهذا التراث وتجديده مع الحفاظ على أصالته، وإذا ما نظرنا إلى التوثيق من هذه الزاوية، سنجد أنه يشمل العديد من الخطوات، مثل التعليم، وجمع المعلومات، وكتابة الأغاني موسيقيًا، والترويج لها، ومناقشتها، وإبراز روادها في الحاضر والماضي.
علاقتها بالموروث الشعبي
وأشار المايسترو القحوم إلى أنّ الأغاني التراثية تسهم بشكل عام في توثيق الأحداث التراثية من خلال الشعر، وحكاية قصص النصر والمجد، والأخلاق الحميدة، والحكم؛ إذ إنّ كل صور التعبير الشفهي تعدُّ من المكونات الأساسية للعادات والتقاليد الشعبية المتوارثة عبر الأجيال، وبمثابة سجل لأحداث وقصص وعادات الماضي، وصورة خالدة عن تصورات أجدادنا ونظرتهم للحياة، وبالتالي، فإنّ الأغنية اليمنية القديمة تعدّ ناقلًا مهمًا للتراث الشعبي اليمني.
وقال بن بريك: “إنّ عملية توثيق الأغنية التراثية اليمنية المتعلقة بالموروث الشعبي تعد مهمة وزارة الثقافة، وذلك من خلال إقامة المهرجانات التراثية للأغنية اليمنية، بمشاركة كبار فناني الوطن، والندوات التوعوية وورش العمل التعريفية للتراث الغنائي، وإنشاء المعاهد الموسيقية المتخصصة، وتشكيل الفرق الوطنية الشعبية التراثية، وتشجيع الشباب على الحفاظ على الأغنية التراثية القديمة، وتقديم الأغنية اليمنية التراثية في المحافل والمهرجانات الدولية، وتكريم الرعيل الأول من رواد الأغنية اليمنية، وإصدار الكتب والبروشورات التعريفية بتاريخ الأغنية اليمنية وعلاقتها بالموروث الشعبي، التي تعد جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية المحلية”.
دور الأغنية التراثية في المجتمع
ذكر القحوم أنّ الأغاني التراثية لا تزال تؤدّي دورًا كبيرًا على المستوى المحلي، حتى وإن لم يكن ذلك واضحًا جليًّا في كثير من الأحيان؛ إذ إنّ بعض الأغاني مثلًا، يزيد عمرها عن مائة سنة، وربما تصل إلى مائتين أو ثلاثمائة سنة؛ كأغاني الفنان يحيى عمر اليافعي، الذي توفي في بداية القرن الثامن عشر، وما تزال أغانيه باقية، مثل أغنية (قف يا زين) التي تؤدَّى كأنّها أُلِّفَت اليوم، وكانت حاضرة في حفلة نغم يمني في باريس. هذا يعد مثالًا بسيطًا على قدرة التراث الفني على الاستمرار، ومدى تمسك الأجيال بالفن التراثي؛ لأنه جزء من الهوية اليمنية وتاريخه، ومن انتصاراته وأفراحه.
وأوضح القحوم أنّ مشروع السيمفونيات التراثية لا يسعى إلى حفظ التراث بالمعنى التقليدي، بل يسعى إلى ضمان بقاء التراث في حالته الأصلية، مثل حفظ قطعة أثرية في متحف، مع إعادة إبداع الأغاني اليمنية لتكون أكثر قدرة على الحياة والاستمرار، كما يهدف المشروع إلى الحفاظ على الروح أو الشخصية الفريدة للأغنية اليمنية، مع ضمان بقاء تأثيرها على المجتمع.
وأشار إلى أنّ مشروع السيمفونيات التراثية يعد إعادة إبداع الأغاني بأسلوب مختلف، لتعزيز حضورها وتأثيرها في الحاضر، ونشرها بين الثقافات، ونقلها للأجيال التالية.
من جانبه أوضح رئيس مؤسسة الرقة بن بريك أنّ واقع الأغنية اليمنية في تراجع بشكل مخيف؛ إذ فقدت مكانتها الريادية على مستوى دول الجوار الخليجية والعالم العربي بشكل عام، وذلك لأسباب كثيرة أهمها، عدم اهتمام الدولة بالفنان اليمني، أكان شاعرًا أم ملحنًا أو موسيقيًا أو مغنيًا، وعدم تشجيعه على المنافسة في ظل التطور الهائل الذي طرأ على الأغنية الخليجية والعربية، وترك الدولة الفنان اليمني يخوض المعركة التنافسية دون سلاح، وتراجع تأثير الأغنية اليمنية على المجتمع المحليِ.
وفي ختام التقرير، يمكن القول إنّ التراث الغنائي اليمني يعدُّ ذا أهمية كبيرة في نشر الثقافة اليمنية، وتعريف العالم بتنوعها الفني والثقافي الواسع؛ إذ يعزز من الهُوية الوطنية للشعب اليمني، ويعكس تاريخه وتقاليده الثرية، لذلك، فإنّ الحفاظ على هذا التراث وترويجه بالصورة المأمولة والمرجوة يسهم في تحقيق العديد من الفوائد، منها الحفاظ على الهوية اليمنية الفريدة والغنية، وتعزيز مفاهيم لغة السلام والمحبة داخل بلاد أنهكتها الصراعات.
73.2% من المشاركين يعتقدون أن التراث الغنائي في اليمن يعكس الهوية الثقافية اليمنية بشكل كبير
صوت الأمل – يُمنى الزبيري يعد الفن الغنائي واحدًا من أقدم الفنون في التاريخ وأكثرها …