إرث يقاوم؛ رحلة عبر الفلكلور اليمني ونكهاته الأصيلة
صوت الأمل – أفراح بورجي
تعرض التراث التاريخي والفلكلور الشعبي في اليمن إلى العديد من التحديات والإهمال منذ 2014م إلى وقت قريب؛ نتيجة عدة عوامل أثّرت بشكل كبير على مظاهر التراث والفلكلور الشعبي في مختلف المحافظات اليمنية؛ إذ توقفت العديد من الفعاليات والمهرجانات الثقافية لأوقات طويلة، وتأثرت العديد من المواقع الأثرية والتاريخية، ممّا أدّى إلى فقدان فئات المجتمع ارتباطهم بثقافتهم وفلكلورهم.
ومن أهم العوامل التي أثّرت على مظاهر الفلكلور الشعبي اليمني، استمرار الصراع في عدد من المحافظات اليمنية، الأمر الذي نتج عنه نزوح كثير من المواطنين إلى محافظات أخرى، وهجرة بعضهم خارج البلاد، الأمر الذي زاد من مخاطر ضياع كثير من العادات والتقاليد بسبب انقطاع التواصل بين الأجيال.
كما أدّت الأزمة الاقتصادية التي تمرُّ بها البلاد إلى تهميش الثقافة والفلكلور الشعبي، الأمر الذي جعل العديد من اليمنيين يركزون على تلبية احتياجاتهم الأساسية من طعام وماء ومأوى، ولا يملكون الوقت الكافي للاهتمام بالتراث وممارسة العادات الفلكلورية، كما أدّت العولمة إلى انتشار ثقافات جديدة وفلكلور شعبي من دول أخرى، وظهور تغيرات جديدة في نمط الحياة، والتركيز على التكنولوجيا الحديثة.
يرى الخبراء والباحثون في مجال التراث أنّ اليمن يتمتع بإرث تاريخي وثقافي متنوع منذ آلاف السنوات، يتمثل في المباني الأثرية، والأزياء القديمة، والمنحوتات، والعملات المعدنية، والمصنوعات الذهبية والفضية، والنقوش والمخطوطات، والشعر والغناء والرقص، وغيرها من الكنوز المادية وغير المادية، التي لا تقدر بثمن، والتي تتعرض إلى تحديات خطيرة.
الباحث في التراث الثقافي والفنون محمد سبأ، أوضح أنّ الصراع يعدُّ من أكثر التحديات التي أدّت إلى توجه كثير من المهتمين بالتراث والفلكلور الشعبي إلى أعمال أخرى؛ نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب، الأمر الذي تسبب في اندثار العديد من مظاهر التراث والفلكلور الشعبي، مثل آلة (القنبوس) التي أُعِيد استخدامها بمحاولات من بعض الشباب والمهتمين، ولكنّ هناك كثيرًا من الآلات والفنون قد اندثرت كآلة “الطنبورة” التي تشتهر في مأرب، وأغانٍ شعبية قديمة.
نكهات التراث الشعبي
يتمتع المطبخ اليمني بتنوع متميز في الأطباق التراثية والفلكلورية التي تختلف من محافظة إلى أخرى، وتشكل – على الرغم من التحديات والصعوبات – إرثًا تاريخيًّا عريقًا يجمع بين عدد كبير من الأطعمة والوجبات التي تمثل التراث الحقيقي لأرض الحضارات المتعاقبة. وسنذكر أهمَّ ما تتمتع به كلُّ محافظة من أطباق تراثية تتمتع بنكهة ورائحة مميزة تمنحها مكانة بارزة في الموائد اليمنية، وحتى على قوائم الطعام العالمية.
أطباق متنوعة في مأرب
تعدُّ محافظة مأرب إحدى أعرق المحافظات اليمنية، التي ما زالت تستخدم مظاهر التراث والفلكلور الشعبي في نمط حياتها، وتجسدها في مأكولاتها الشعبية المتنوعة.
تقول ولاء دينيش (من أبناء محافظة مأرب، التي تُكرّس جهودها لإحياء ثقافة المحافظة ونشرها والترويج لأطباقها الشعبية): “إنّ من أشهر الأطباق في محافظة مأرب (المعصوب)، الذي يتميز بتنوع أشكاله المختلفة، فهناك معصوب السمن والجلجل، الذي يعدُّ من أكثر الأنواع انتشارًا، ومعصوب العسل، ومعصوب الحليب، وتحضر الأطباق الشعبية في المناسبات المختلفة، وفي الأيام العادية أيضًا. موضحة أهمية هذه الأطباق من ناحية القيمة الغذائية؛ إذ إنّها غنية بالفيتامينات، وتسهم في بناء جسم قوي.
كما أشارت إلى أنّ هناك أطباقًا أخرى غير المعصوب لها مكانه تاريخية في المحافظة، كوجبة العصيدة التي تعدُّ أساسية في المناسبات، والمُجَمَّر (نوع من الخبز يطهى داخل الجمر)، واللحوح اللذينِ يقدَّمان في الإفطار أو العشاء.
هنا تؤكد ولاء على أهمية الحفاظ على الأطباق التقليدية الشعبية التي تتميز بها المحافظة، من خلال التوعية بقيمتها الغذائية وفوائدها الصحيّة، كما أنّ هذه الأطباق تعكس تنوع ثقافة المحافظة، وتجسد كرم الضيافة، وتمثل جزءًا من هُويّة مأرب.
الأطباق التقليدية في تعز
محافظة تعز، إحدى أعرق المحافظات اليمنية، التي تعدُّ موطنًا لتراث غني ومتنوع في مختلف الظواهر التراثية والفلكلورية الشعبية، كما يتجسد التراث في مأكولاتها الشعبية المتنوعة. هنا تُبرِز سعدية الأدهم (إحدى أهالي تعز) موائد تعز الغنية؛ إذ تقول: “إنّ محافظة تعز تشتهر بأطباق تراثية ما زالت تقدَّم في كلِّ بيت، على الرغم من تحديات الصراع في المحافظة”.
وذكرت سعدية وجبة (العصيدة)، و(اللحوح) الذي يتميز بطريقته الخاصة في التحضير؛ إذ يُعجن في الليل ويُضاف إليه الخميرة والزبادي ويُترك حتى يتخمر، و(خبز الطاوة) كأهم الأطباق الموجودة في تعز، وتُشير إلى وجود أطباق أخرى، مثل (الشقافة) وهو عبارة عن فطيرة من الذرة تُعجن بشكل خاص وتُفرد على مقلاة معدنية على النار مباشرة، و(عشار الملحة) و(الشجور) الذي يُعجن في الليل ويُطهى في اليوم التالي على شكل عصيد، واللِّبأ، والشوافة وخبز الموفى (نوعان من الخبز).
وتُشير سعدية إلى أنّ تلك الأطباق الشعبية وغيرها لا تزال موجودة في كل مائدة بمحافظة تعز، خاصة في المناطق الريفية، وأنّ انتشار المطاعم التي تقدّم هذه الأطباق ساعد في الحفاظ عليها واستمرارها، كما أنّ من ضمن العادات والتقاليد الشعبية تجهيز العديد من المأكولات الشعبية في المناسبات الاجتماعية المختلفة، مثل الأعراس؛ إذ يقدمها أهل المنطقة دعمًا لبيت العريس.
تؤكد الأدهم على أنّ هذه الأطباق تمثل موروثًا ثقافيًّا غنيًّا، يجب الحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة؛ إذ إنّ المغتربين من أبناء تعز يحرصون على تناول هذه الأطباق خلال مدّة إقامتهم في الخارج، الأمر الذي يسهم في الحافظ على الإرث التاريخي والشعور بالانتماء لوطنهم عبر مشاركة ثقافتهم مع الآخرين.
صنعاء مدينة مليئة بالأطباق الشعبية
أما الأطباق التقليدية الشعبية التي ما زالت تجهز إلى اليوم في محافظة صنعاء، يوضح أحمد المتوكل (من أبناء المحافظة) أنّ طبق (السلتة) يعدُّ من أشهر الأطباق الصنعانية وأقدمها وأكثرها شعبية، وهو عبارة عن اللحم مع بعض المقادير، يسكب عليه (الحلبة) المخلوطة مع بعض الخضروات، ويجهز الطبق، ويقدَّم في قدر مصنوع من الحجر؛ ليحتفظ بحرارته أطول وقت ممكن.
كما يشير المتوكل إلى انتشار أنواع مختلفة من الأطباق في صنعاء، مثل: الفحسة وخبز التنور، أو كما يقال باللهجة الصنعانية: (الملوج)، والشاهي الأسود الذي يضاف إليه القرنفل أو النعناع، ومشروب القشر المكون من قشر الهيل أو البُن، وبما يتعلق بالحلويات، فهناك (بنت الصحن) وهي عبارة عن فطيرة منفوخة مصنوعة من الدقيق تخبز في الفرن، ويوضع فوقها العسل قبل أن تقدّم للضيف، وأكلة (الدخن مع اللحم) ذات القطع الصغيرة، التي يضاف إليها المرق وتُدعى (حارق).
الحديدة تزخر بالأطباق الجميلة
يقول نبيل عمر من محافظة الحديدة: “إنّ محافظة الحديدة مليئة بالأطباق الشعبية التراثية المتنوعة التي ما زالت إلى اليوم حاضرة في كل بيت، مثل (الكُبان) وهي وجبة تتكون من حبوب الدجر المطحون، التي يضاف إليها الزبادي والدقيق وأصناف أخرى من الحبوب، وتركه يتخمر حتى الصباح، ويوضع فوقه كمية من الحليب المغلي، ويحرك حتى يفور ويصبح جاهزًا، ويقدَّم مع اللحوح.
ويوضح نبيل كيفية إعداد الأسماك المدخنة (هي إحدى الوجبات الشعبية في تهامة)، ويكون إعدادها من سمك الباغة ذات الحجم الصغير، يُدخَل الفرن التقليدي، ويقدّم في وجبتي الإفطار والعشاء، إلى جانب الجبن البلدي المدخن المخلوط بالفلفل.
وهناك كثير من الأطباق الشعبية لم تلقَ حقّها من الشهرة مثل (المخلوطة) التي هي عبارة عن دقيق مع الكراث والبطاط، مضاف إليها بهارات تُعجن مع بعضها وتُقلى بالزيت الحار، ويضاف بجانبها البسباس المسحوق والجبن والليمون؛ إذ تأكل هذه الوجبة في الإفطار في محافظة الحديدة.
حضرموت غنية بالأطباق الرائعة
يقدّم الشيف هاني الجابري (أحد أبناء حضرموت) رحلة مميزة مع أحد أقدم الأطباق الحضرمية وأشهرها، وهو (الكراش) الذي يتكون من أمعاء الأسماك، خاصة سمك الثمد، ويعدُّ طبقًا تقليديًّا يقدَّم في وجبة الفطور.
يبدأ الشيف هاني يومه باكرًا؛ إذ يخرج بعد صلاة الفجر مباشرة إلى سوق السمك لجمع أمعاء الأسماك، وبعد ذلك يعدُّ الشيف هاني الصّوص الخاص بالكراشِ، ثُم يعود إلى سوق السمك في الساعة التاسعة صباحًا لبيع هذا الطبق اللذيذ.
ويذكر الشيف هاني أنّ الكراش يعدُّ طبقًا حضرميًّا أصيلًا يقدّم منذ أكثر من مئة وخمسين عامًا، وأنّ الحضارم الذين هاجروا إلى الخارجِ نقلوا معهم هذا الطبق المميز، وأصبح يقدَّم في العديد من الدولِ، مثل اندونيسيا وجدة وغيرها من المدن الساحلية.
ويبين هاني الجابري أنّ من أشهر الأطباق الحضرمية الشتوية (الهريش الدوعني) الذي يتكون من لحم الغنم والشعير، ويطهيانِ معًا لمدة تتراوح بين 12 و17 ساعة متواصلة؛ حتى يمتزج اللحم مع الشعير، ويصبح على شكل عصيدة كثيفة تحتوي على قطع من اللحم المهروس.
ويضيف الجابري: “أنّ (الهريش الدوعني) يعدّ من أشهر الأطباق الشتوية في حضرموت، وذلك لما له من خصائص تدفئ الجسم، وتساعد على مقاومة البرد، بالإضافة إلى أنّ هناك وجبة (الباخُمري) التي تعدُّ من أشهر الأطباق الحضرمية، وطبق (المندي) الذي يعرف بأنّه لحم يُطهى في تنور خاص مع أعشاب وبهارات مميزة تضفي عليه طعمًا فريدًا”.
يؤكد الخبراء والمهتمون بالتراث والفلكلور اليمني المتنوع ضرورة الاهتمام من قبل الجهات المعنية كافة بالحفاظ على ظواهره. وعلى الرغم من الجهود التي بُذلت في الآونة الأخيرة في إبراز التراث الشعبي عبر الاحتفاء بالهوية اليمنية ويوم الوعل وغيرها، فإنّ هناك المزيد من الظواهر الفلكلورية والتراثية لم تلقَ الاهتمام الكافي.
وأوضحوا أنّ الاهتمام ضروري لدعم الفنانين والمجموعات التي تعنى بالحفاظ على الفلكلور اليمني الشعبي، والعمل على توثيقه عبر إعداد الكتب والأفلام والوثائقيات، والاستمرار في تنظيم الفعاليات والمهرجانات الثقافية التي تُعنى به، ونشر الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على مظاهره، وتقديم الدعم اللازم للجهود الرامية إلى إدراجه في قائمة التراث العالمي غير المادي في اليونسكو.
96.3% من المشاركين في الاستطلاع يرون أن الأزياء الشعبية اليمنية تلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع اليمني
صوت الأمل – يُمنى الزبيري اليمن بلد يتميز بموروث شعبي غني ومتنوع. يعكس هذا الموروث ت…