‫الرئيسية‬ الأعداد السابقة النازحين في اليمن أطفال النازحين بين التعليم والعمل… التضحية بالمدرسة لسدّ رمق جوعهم

أطفال النازحين بين التعليم والعمل… التضحية بالمدرسة لسدّ رمق جوعهم

لم  يخطر في بال إبراهيم شائف (14 عام) وأخته لميس (16 عام)، أن حالهم سينقلب من كونهم الابناء المرفهين لعائلة ميسورة إلى أطفال مشردين، بفعل النزوح الذي حولهما من طلاب متفوقين إلى أطفال محرومين من الدراسة، يرقبان بحسرة لا تخلو من حسد قرناء لهما يذهبون إلى المدرسة صباح كل يوم.. فقبل أن يُكملا عامهما الدراسي دُمرت مدرستهما في الحديدة، والتهمت النيران معظم وثائق الطلاب وبعدها بأسابيع قليلة أصبح منزلهما في مُحيط منطقة الاشتباكات، لم يكن أمام أبوهما شائف نعمان  خيار سوى قرار النزوح إلى صنعاء.

في صنعاء تفرقت الأسرة  الخالة (زوجة شائف) ذهبت للسكن مع أهلها، الأب قرر الهجرة إلى عدن للبحث عن عمل تاركًا إبراهيم ولميس في بيت أخته، يواجهان ظروفًا معيشيَّة صعبة.

يقول إبراهيم: “ كان اسوأ يوم في حياتنا يوم نزحنا إلى صنعاء”، وتُضيف لميس “ فجأة وجدنا أنفسنا بلا أب ولا أسرة ولا بيت ولا مدرسة ولا مصاريف.. وأخي إبراهيم يقضي معظم وقته في الشارع؛ لأن منزل عمتي فيه غرفتين فقط وعندها أربعة أولاد وزوجها”.

التضحية من أجل المدرسة

مع بداية العام الدراسي الجديد تخلَّت لميس عن حُلمها في مواصلة الدراسة، ووافقت على العمل في مشغلٍ للخياطة مقابل أن يواصل إبراهيم دراسته،  لكن دخلها المتواضع لم يكن كافيًا لتغطية تكاليف المدرسة، مما دفع إبراهيم هو الآخر لترك المدرسة بعد أسابيع من بدء الدراسة.

وعن ذلك يقول إبراهيم : “ كيف يمكنني مواصلة الدراسة وما عندي زي مدرسي ولا قيمة الدفاتر وفلوس لميس ما تكفي حتى قيمة الفطور،  وفوق هذا لا يوجد كُتب في المدرسة ولا مقاعد والأساتذة غائبون.. كُنا ندرس حصتين وباقي اليوم لعب في الفصل” ويضيف “ بعد أن تركت الدراسة كنت أرقب أولاد الجيران وهم يرتدون الزي المدرسي ويحملون حقائبهم ويذهبون إلى المدرسة صباح كل يوم و أبقى في الشارع وحيدًا انتظرهم حتى يعودون.. “ هنا ترتسم على وجه إبراهيم ابتسامة تبدو فيها السخرية و يواصل بالقول “ لكن الآن خلاص جاء (كورونا)  وقفلوا المدارس .. لم أعد وحيدًا في الشارع أطفال الحارة كلهم معي”

يستقر الحال بإبراهيم مداومًا في الشارع من الصباح إلى الليل، ولميس مداومة في معمل الخياطة على فترتين.

النزوح والتعليم.. أرقام ودلالات

 وفقًا لإحصائيات صادرة عن الجهات الرسميَّة في صنعاء، فإن حكاية إبراهيم ولميس اختزلت أبرز الآثار السلبيَّة لخمس سنوات من الصراع على قطاع التعليم في البلد. فمدرستهما واحدة من 3652 مدرسة تضررت من الحرب، وأجبرتهما أن ينضما إلى ملايين الأطفال خارج المدرسة.

تقول الإحصائيات إن 4292000 طالب يمثلون حوالي %72، من إجمالي طلاب اليمن تأثروا بشكل مباشر أو غير مباشر على مدى الخمس السنوات الماضية بالحرب؛ و ذلك نتيجة انقطاع رواتب 196 ألف كادر تربوي يمثلون 64% من القوى العاملة في قطاع التعليم.

ويؤكد المختصون أن انتشار الفقر نتيجة استمرار الصراعات ترك أثرا واضحًا على قطاع التعليم وخاصَّة تعليم الفتاة وهو ما تعكسه حكاية لميس التي تركت المدرسة لمواجهة هذه المشكلة.

يأس واستسلام … وفي النهاية ينتصر الأمل

أما شائف نعمان وأولاده فقد اختلفت نظرتهم للحياة بين يأس واستسلام وأمل. أما اليأس فعند الأب الذي يقول: “ قبل الحرب كان هدفي الأساسي هو تحقيق أحلام لميس وإبراهيم في الوصول إلى الجامعة، وكنت أوفر لهما كل متطلباتها وبالزيادة ولكن الآن لا أستطيع أن أعمل أي شيء لهما”

وأما الاستسلام فعند لميس التي تركت المدرسة واتجهت للعمل في مشغل الخياطة.

وعلى الرغم من الواقع المرير الذي تعيشه الأُسرة إلاَّ أن هناك بصيص أمل عند إبراهيم الذي ينتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة التي يعود فيها إلى مدرسته القديمة في الحديدة تلك المدينة التي ولد وعاش فيها أجمل أيام طفولته.

الدراسة لن تعالج سارة

قصه هاني هزاع الشرعبي (15 عامًا) ربما تختزل مئات الآلاف من حالات مشابهة لأطفال نازحين تركوا مقاعد الدراسة، ليلتحقوا بسوق العمل في سنّ مبكرة غير مسموح بها قانونًا.

هاني أحد خمسة أطفال نزحوا مع والديهم من منطقة “نهم”، منهم اثنان مصابون بمرض “ تكسرات الدم”، ترك المدرسة مع بداية العام الحالي ليعمل أجيرًا في بيع الكتب المدرسية في العاصمة صنعاء، في حين أبوه عمل حارسًا في إحدى المنشآت الخاصة.

يقول والده: “ أنا من تعز، وكنت أعمل في مزرعة قات في نهم، وتعرّضت للإصابة بكسور في ساقي، عقب قصف طال مكان العمل، ووجدت نفسي عاجزًا عن العمل. أصبحت منطقة سكننا ساحة اشتباكات مفتوحة، عندها قررت النجاة بأطفالي والهروب إلى صنعاء.

عندما رآني هاني في هذه الحالة قرر ترك المدرسة والعمل لكي يساعدني، في توفير مصاريف الدراسة لثلاث من أخواته، إحداهن مصابة بتكسرات في الدم، بعد أن توفي أخوه الأكبر سليم 20 عامًا في الحرب”.

  بدأ هاني بالعمل بائعًا متجولًا لمدة وجيزة، وحاليًا يشتغل في بيع الكتب المدرسية، ما بين ثماني إلى عشر ساعات يوميًّا  براتب 25 ألف ريال.

يقول والد هاني: “ لأنني غير قادر على العمل الثقيل  بسبب الإصابة ونتيجة الظروف المادية والأحوال الصعبة، التي تمر بها البلاد، اضطررت للقبول بعمل هاني وبقائه في الشارع حتى ساعات متأخرة من  الليل”.

“إصابة والدي، ومقتل أخي – بسبب الصراع- دفعني للتخلي عن تعليمي لمساعدة والدي، والحفاظ على حياة أختي سارة  (13 عام) المريضة بتكسرات الدم”.

لا يمكن أترك ملاك

ويضيف هاني، بصوت حازم: “ وعدت أبي أن أتكفل أنا بتكاليف علاج سارة ومصاريفها، وعليه باقي مصاريف البيت”.

وعن رغبته بالعودة إلى المدرسة، يقول: “ أكيد أتمنى العودة إلى المدرسة، ولكن.. (امتلأت عيناه بالدموع) … ولكن لا يمكن أترك ملاك تموت بعد سليم … الدراسة لن توفّر علاج لسارة، لكن العمل سيوفّر لها العلاج”.

قنابل موقوتة

الدكتور وهيب القباطي – اختصاصي اجتماعي- يؤكّد أن عدم التحاق الأطفال النازحين بالمدارس يجعلهم عُرضة لمخاطر لا حصر لها، وتسبب لهم أضرارًا نفسية جسيمة تودي بهم إلى طريق الجريمة بكل أنواعها.

ويضيف: “ شوارعنا مليئة بالأطفال المتسربين من المدارس، وهم يمثلون قنابل موقوتة، قابلة للانفجار مستقبلًا في أي لحظة”.

الورشة بدلاً عن المدرسة

أسامة خالد الكتف (16 عامًا)، من محافظة ريمة، ترك المدرسة مع أنه كان من أوائل صفه في الأعوام السابقة، بعد أن نزحت أسرته من تعز، وهاجر والده للعمل في السعودية، عن طريق التهريب.

يقول: “ والدي هاجر، وتركني وحيدًا مع والدتي وأخواتي الثلاث في تعز، حيث كنت أدرس. وبعد أن احتدمت الاشتباكات في المدينة هربت مع والدتي وأخواتي إلى صنعاء… أنا الرجل الوحيد الآن في الأسرة وليس لدينا أي دخل مادي، حتى الضمان الاجتماعي سجلونا، ولكننا لم نستلم منهم ريالًا واحدًا”.

يسكن أسامة مع والدته التي تعمل خياطة وأخواته الثلاث في غرفة واحدة، استأجرها بخمسة عشر ألف ريال شهريًّا.

لم يجد أمامه أي خيار سوى أن يترك الدراسة، بالرغم من حبّه للتعليم -كما يقول- ولجأ إلى العمل في ورشة إصلاح سيارات، طوال اليوم وإلى ساعات متأخرة من الليل.

يضيف أسامة: “ المدرسة تتطلب تكاليف تسجيل، وكتب، ومستلزمات أخرى، بالإضافة إلى المصاريف اليومية، وهذه كلها لا يمكن أن أوفّرها لنفسي، لذلك قررت أن أوفّرها لأخواتي البنات”.

وما زاد من الحمل على كاهل أسامة أن والده، بدلًا من أن يرسل لهم مصاريف أرسل لوالدته بورقة طلاقها …!!!

العمل في الورشة يوفّر لأسامة أجرًا يوميًّا، ما بين 500  إلى 1500 ريال، وأحيانًا لا شيء.

أسامة وأخواته الثلاث كانوا، العام الماضي، في المدرسة، لكن هذا العام لم يعد أحدٌ منهم يذهب إلى المدرسة سوى منال (9 أعوام).

لا حياة لمن تنادي

الجهات الرسمية تجد نفسها مكتوفة الأيدي أمام هذه الانتهاكات الخطيرة لحقوق الطفل، وهذا ما اعترف به المستشار القانوني لوزارة حقوق الإنسان حميد الرفيق: “عملنا يقتصر على التعاون مع وزارة التربية والتعليم لتقديم المشهورات والاقتراحات”.

في إحدى مخيمات النازحين في ضواحي العاصمة صنعاء، يتمنّى صريح (12 عامًا) وجدير (10 أعوام) وأخوهم الأصغر شامخ (5 أعوام) أن يجدوا فرصة للذهاب إلى المدرسة، لكنّ أباهم لا يستطيع تحقيق هذه الأمنية لهم.

 “أقرب مدرسة تبعد عن المخيّم حوالي ثلاثة كيلو مترات، وفي منطقة شبه مقطوعة، لذلك لن أسمح لهم بالذهاب إلى هناك، بالإضافة إلى أنني غير قادر على توفير متطلبات الدراسة لهم” .. يقول والدهم أحمد الحيمي.

عاقل المخيّم أوضح أن إحدى فاعلات الخير تبرّعت باستئجار شقة من غرفتين وصالة كمدرسة للصفوف الثلاثة الأولى، وخلال العام الماضي استوعبت (المدرسة) حوالي خمسين طالبًا من أبناء النازحين، ولكن مستويات الطلاب لا تنمّ عن تلقيهم أي تعليم.

هنا يتدخل أحمد الحيمي بالقول: “ صريح وجدير كانا من ضمن من ذهبوا إلى هذه المدرسة، لكنك لو سألت أحدهما أن يكتب اسمه بالشكل الصحيح لن يستطيع”.

إلى أين…؟!

يبقى السؤال: إلى أين تتجه مشكلة النازحين بتشعباتها المتعددة وامتدادها في أكثر من جانب.. ماذا يمكن أن تقدّم الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني المحليَّة أو الدوليَّة – على الأقل- للحد من النتائج والآثار السلبية لهذه الظاهرة؟

يقول الدكتور عبد الجبار الوائلي – مختص بالمناهج التحليلية- “ إنه لابـد من وضع برنامج متكامل يشمل كافة القطاعات، وكافة الجهات للتعامل مع ظاهرة النزوح، ومعالجة آثارها بشكل جماعي، وعلى كافة المستويات..”

 ويوضح الوائلي أن كل جهة يمكن أن يكون لها دور في ضوء المحددات، التي يفرضها الواقع، فالدور المناط بالجهات الرسمية لا يمكن أن تغطيه بشكل كامل في الوقت الراهن، ولا حتى في المستقبل المنظور.

 ولتغطية هذه الفجوة أو القصور المتوقّع في الجانب الرسمي، يجب أن تتدخل المنظمات الدولية والمحلية للقيام بسد هذا العجز المتوقّع.

‫شاهد أيضًا‬

الدورات التدريبية في مجال الطهي إلمام بثقافات مختلفة وفرص مهنية واسعة

صوت الأمل – علياء محمد لا يقتصر فن الطهي على الطبخ المتعارف عليه لدى الأفراد، بل يحمل بين …